آراءثقافة

فلسفة التصوف عند محيي الدين ابن عربي

” الحقيقة في الوجود التلوين والمتمكن في التلوين، هو صاحب التمكين، ما هو المقابل للتلوين؛ لأن الحقيقة تعطي أن يكون الأمر هكذا؛ لأن الله كل يوم هو في شأن، فهو في التلوين! ” ابن عربي

إن الحديث عن فلسفة التصوف عند ابن عربي الملقب بالشيخ الأكبر أو  الكبريت اﻷحمر، يأتي في إطار إحياء تراثه، وهي محاولة إعادة اﻹنسان إلى إنسانيته، في ظل عصر بات يسجل انهيارات مفاجئة في العلاقات اﻹنسانية، القائم بعضها على التآخي والتعاضد والمودة والمحبة وملاقاة اﻵخر، وهذه علاقات بتنا نفتقدها في عصرنا الحالي، ويراهن البعض أن مثل هذا التراث الموجود والمستعاد يعيدنا إليها؛ مما يساعدنا على اكتساب هويتنا باانفتاح الداخلي والخارجي، وتعتمد هذه الطروحات على مفاهيم التسامح والتضامن، فابن عربي بكل باطنية أفكاره، يعتمد على ظاهر النص ﻹثبات أن النص الظاهر قادر إذا أجيد استخدامه على فتح أبواب جديدة وغائبة، وبذلك فهو يتجاوز المعالجة التقليدية للنصوص وتتعزز أهمية اﻹضاءة على أبعادها وتطبيقاتها في الزمان الحديث، وتأثير ابن عربي على التصوف هو تأثير جذري وجلي على أوراد وكتب المتصوفة من جميع الملل والنحل، وهو تأثير فلسفي ومنهجي على مستوى قوة الخطاب واللغة التي يستخدمها، وله قدرة عجيبة في تفجير معان متباينة للحب والتسامح والتآخي والمعرفة، واللغة هي ما أعادت اﻷهمية اكتشاف تراثه وفتوحاته المتنقلة بين الدين والأدب والعرفان والفلسفة.

والتصوف له دور هام  في تشكيل البنية اﻷخلاقية والروحية والفكرية للإنسان، وليس كتصوف اليوم الذي خرج عن قواعد التصوف السليم، وأضحى تصوف تشوبه الهرطقات والخرافات، وأضحى التصوف أداة سياسية في يد الدولة لضرب روح التغيير والتجديد في النفوس لمئارب سياسية وتصوير التصوف كأنه إنقطاع دائم عن أمور الدنيا والتركيز فقط على الحياة الأخرى.. علمًا ان كبار أعلام  التصوف كانوا دائمًا في مواجهة الظلم والدفع نحو التغيير، وليس نحو النكوص والاستسلام كما نراه في عصرنا الحاضر، وأيضًا الدفع نحو سلفنة الصوفية وإفراغها من محتواها وتصويرها أنها كفر وزندقة وإلحاد، وهذا ينم عن جهل مطبق للغة الصوفية وللتراث الصوفي الإسلامي الذي تجاوز تأثيره إلى فلسفات وثقافات أخرى، وعليه فإن اختياري لفلسفة التصوف لابن عربي في هذا المقال جاءت من منطلق أنه تصوف احتوى في جوانبه خطاباً إنسانيًا، وفي تشكيل ملامح التصوف العقلاني والروحي وكمشروع سياسي في بناء الشخصية الروحية للدولة.

المنهج الصوفي عند ابن عربي

يفرق محيي الدين بن عربي بصفة مطردة، بين المنهج العقلي اﻹستدلالي الذي يستخدمه الفلاسفة والمتكلمون أحيانًا كثيرة، وبين منهج الصوفية في المعرفة ويطلق عليه اسم (الذوق) ولذا نراه يصف الفلاسفة بأنهم (أصحاب فكر لا ذوق) وفي حين يصف الصوفية أنهم أصحاب أذواق وأحوال، لا أهل فكر واستدلال.

فالنظرية المعرفية العقلية والذوقية عند ابن عربي ويطلق عليه المحدثون اسم الحدس العقلي أو الحسي والذي يسميه أيضًا في كتابه الفتوحات المكية علم النظرة أو الضربة أو الرمية، تقوم على خصائص وآليات محددة وأهم ما يميزها هو كونها تعتمد على الإدراك المباشر للحقيقة في جوهرها، وإذا كانت الحقيقة هي موضوعها اﻷول واﻷخير فهي متماهية معه ومتطابقة تطابقًا ذاتيًا مع موضوعها، فالعارف يتحقق عبر هذه المعرفة من طبيعة الحقيقة في ذاتها، فالذوق موضوعه الحقيقة ذاتها، ولذلك يعرف ابن عربي الذوق بأنه (الشهود المباشر للحقائق). وتستند آليات نظريته المعرفية إلى جملة من الوظائف: وظيفة القلب ووظيفة الخيال والتي تتضمن بدورها عين البصيرة والعقل الجزئي وعين اليقين ونور اليقين ويضاف إليها المعاريج الثلاثة يفضي بعضها إلى بعض.

وابن عربي يعرف هذا الذوق الصوفي في كتابه الفتوحات المكية تعريفًا رائعًا ومجملًا من جميع الجوانب فيقول (إنه أول مبادئ التجلي، وهو حال يفاجأ العبد في قلبه، فإن أقام نفسين فصاعدًا كان شربًا)، ثم يخبرنا أن علمه جاء عن طريق الذوق فيقول (ورزقنا من هذا الفن ذوق النظرة)، فالذوق إذًا مشاهدة مفاجئة أو تفكير لحظي تنمحي أي فجوة زمنية، تتسع ﻷي ضرب من ضروب ااستدلال العقلي، ويشبه وصف ابن عربي للذوق ما نجده عند كبار المفكرين الذين يرون أن الخيال العلمي يشبه النور الذي يسطع فجأة كلمح البصر، فيغمر اﻷشياء بلمحة واحدة، ويكشف عن العلاقات بينها، وهذا ما عبر عنه العالم الفرنسي Claude Bernand مؤسس المدرسة التجريبية العلمية فيما بعد بقوله: (قد يتفق أن تضل إحدى الظواهر أو الملاحظات فترة طويلة أمام ناظري العالم دون أن توحي له بشيء ما، ثم يسطع النور فجأة، فيفسر العقل الظاهر نفسها على نحو مخالف تمامًا عن تفسيره إياها من قبل، وحينئذ تظهر الفكرة الجديدة كخطف البصر كما لو كانت وحيًا مفاجئًا).

وكذلك يشبه ذوق النظرة عند ابن عربي ما قاله نيوتن Newton فيما بعد بقوله: (إذا كانت أبحاثي قد أدت إلى بعض النتائج المفيدة، فذلك ﻷنها وليدة العمل والتفكير الوليد، إنني أجعل موضوع البحث نصب عيني دائم ثم انتظر حتى تبدو اﻷشعة اﻷولى، وتسطع شيئًا فشيئا حتى تنقلب ضوءًا مفعمًا كاملًا).

كذلك يمكن أن نجد فكرة ابن عربي عن انمحاء الفترة الزمنية اﻹشراق والمعرفة أو بين السبب والمسبب، ما يمكن أن يتخذ أساسًا لفكرة القانون العلمي بمعناها الحديث والمعاصر وهو القانون الذي يطلق عليه اسم العلاقة الوظيفية Functional relationship، حيث يحدد التأثير والتأثر في آن واحد كما هي الحال في القوانين العلمية التي يعبر عنها بصيغ رياضية، ويرى ابن عربي أن قليلًا من الناس من يرزق هذه الموهبة التي تعتمد أساسًا على حدة الخيال، ثم ترتكز إلى القدرة على تفعيل ما تحتوي عليه هذه النظرة الخيالية الإجمالية، فالذوق عند ابن عربي يشبه إذًا أن يكون شيئًا من هذا القبيل، ذلك أن الضربة أو اللحظة أو الرمية هو منهج أقرب ما يكون إلى الإلهام.

موقف ابن عربي من الفلسفة والفلاسفة وقصته مع ابن رشد

بالرغم من أن ابن عربي أكد من خلال كتاباته وآرائه أنه لا يأخذ شيئًا من الفلاسفة والحط من قدرهم إلا أنه ومن خلال تراثه وأقواله يمكن أن نستشف نزعته الفلسفية الواضحة، وأنه ذات ثقافة فلسفية واسعة وشاملة، وذلك ﻷنه اطلع على شتى ضروب الفلسفات واآراء والأهواء والملل والنحل، ولكنه هضم ذلك كله وأخرجه في صورة عقد لؤلؤي فريد وذات فلسفة خاصة، إنها أقرب إلى فلسفة  إلهية وعرفانية، ومما يدعم صحة هذا القول أن ابن عربي كان يلقب بالأفلاطوني؛ ﻷنه يعد رمزًا لبعث فلسفة أفلاطون وفلسفة الإشراق في المشرق بعد رحلته إلى الشرق واستقراره فيها قادمًا من الأندلس (وطنه اﻷم) وحاملًا معه الثقافة الأندلسية التي تتميز بانفتاحها وتنوعها وتشعب مسالكها وطرقها.

ولقد روى ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية عن لقائه مع الفيلسوف ابن رشد واستخفاف ابن عربي من أصحاب الاستدلال العقلي والحط من قيمتهم فيقول: (ولقد دخلت يوما بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع، وبلغه ما فتح الله به علي في خلوتي، فكان يظهر التعجب مما يسمع، فبعثني والدي إليه في حاجة، قصدًا منه حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما يقل وجهي ولا طر شاربي. فعندما دخلت عليه قام من مكانه إلى محبة وإعظام، فعانقني وقال لي: نعم، قلت له: نعم فزاد فرحه بي لفهمي عنه. ثم إني استشعرت بما أفرحه من ذلك، قلت: لا. فانقبض وتغير لونه، وشك فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاها لنا النظر؟ قلت له : نعم لا، وبين «نعم » و«لا» تطير الأرواح من موادها، والأعناق من أجسادها. فاصفر وجهه وأخذه الأفكل، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرت به إليه، وطلب بعد ذلك الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا، هل هو يوافق أو يخالف، فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية. فأقيم لي، رحمه الله في الواقعة (الرؤيا) في صورة ضرب بيني وبينه فيها حجاب رفيق، انظر إليه منه ولا يبصرني ولا يعرف مكاني، وقد شغل بنفسه عني. فقلت: إنه غير مراد لما نحن فيه. فما اجتمعت به حتى درج، وذلك في سنة 595 بمدينة مراكش، ونقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر، وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد بن جبير، وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السراج الناسخ. فالتفت أبو الحكم إلينا، وقال: إلا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله، يعني تواليفه. قال له ابن جبير: يا ولدي نعم ما نظرت! لا فض فوك. فقيدتها عندي موعظة وتذكرة، رحم الله جميعهم. وما بقي من تلك الجماعة غيري. وقلنا في ذلك:

هذا الإمــام وهـذه أعمــاله.. يــا ليث شعري هـل أتت آماله؟
وواضح من خلال سياق القصة مزيجًا من السخرية بالتفكير الفلسفي، وتمجيدًا لعلم آخر يحصل دون قراءة أو بحث أو إطلاع، بل يحدث عن لقاء إلهي كما يقول ابن عربي، كما نجد فيها، إلى جانب ذلك، إشفاقًا على ضياع عمر ابن رشد وجهده في محاولته التوفيق بين الدين والعقل.

تأثير تراث ابن عربي في تأسيس الدولة العثمانية

إن منهج ابن عربي كان له دور هام وحقيقي  في تشكيل تصوف فكري عقلاني فلسفي أثرث بشكل كبير وامتدت إلى تأسيس الإطار الروحي الدولة العثمانية، حيث انتشرت أفكاره وآراؤه على يد تلامذته ومريديه من أمثال: صدر الدين القينوي ومؤيد الدين الجندري وجلال الدين الرومي وحاجي بكتاش ولي، وهؤلاء من أشهر المتصوفة الأوائل الذين وضعوا أسس ومبادئ التصوف في تأسيس الدولة العثمانية وعاصروا السنوات الأولى من تأسيسها، وكان تأسيس مكتب الأناضول باسم المكتبة اﻷكبرية نسبة إلى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وكان هذا المكتب بمثابة المدرسة الصوفية الكبرى واستمر نشاط هذا المكتب على يد الشيخ داود القيصري الذي اشتهر بشرح كتاب فصوص الحكم المنسوب لابن عربي، وكان أول مدرس في المدارس الدينية العثمانية، وقد تسلم لواء الصوفية من بعده الشيخ مولا فناري وكان أول شيخ للإسلام في الدولة العثمانية، وهذا دليل عن مدى تأثير تراث ابن عربي في هذه الدولة الإمبراطورية التي حكمت أكثر من ستة قرون، وما زال تأثيرها سارٍ إلى يومنا هذا.

وفي الختام فإن محاولتي في تسليط الضوء على  دراسة منهج وتراث ابن عربي في هذا المقال ليس بالأمر الهين أو السهل، خاصة، وأنه يستعمل لغة تحتاج إلى رصيد لغوي ومعرفي وقاعدة فكرية متينة تمكنك من فك طلاسم كتاباته وآرائه، لقد كان متقدمًا على زمانه وعدم فهم المسلمين لفكره خاصة التيار السلفي أدى بهم إلى زندقته وتكفيره؛ لأنه كان يشكل بشكل أو بآخر تهديدًا للسلطة الفقهية التقليدية ونفس الشيء حصل مع ابن رشد وغيره من الأعلام والقامات الفكرية الذين تم تكفيرهم وتحريم قراءة كتبهم.

المصادر

– كتاب الفتوحات المكية محيي الدين ابن عربي

– كتاب الخيال في مذهب محيي الدين ابن عربي الدكتور محمود قاسم

– كتاب قواعد التصوف الشيخ أحمد بن زروق

– مجلة دعوة الحق عدد 126 يناير 2013

– مجلة التصوف الإسلامي عدد 268 يوليو 2001

– كتاب تنبيه الغبي في تبرئة ابن عربي الإمام السيوطي

Vida de santones andaluces epistola de la candidates ibn arabi asín palacios Miguel

https://anbaaexpress.ma/doqj7

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى