آراءسياسة

مستقبل الفضاء المغاربي في ضوء الحرب الروسية الأوكراينية (4)

من هتلر إلى بوتين: الحرب العالمية الثالثة في غمار صدام الأنساق الجيوسياسية

الجيوسياسة: الفضاء، النسق والفراغ

الفضاء الجيوسياسي الأوروبي ونشوء القوميات

يرجع نشوء الأمم الأوروبية بمظهرها المسيحي العلماني إلى التحولات الجيوسياسية التي صاحبت تفكك الإمبراطوريا الرومانية الغربية، وإلى حقبة ما اصطلح على تسميته بالعصور الوسطى وفي سياق نشأة الإمبراطوريا الجرمانية وما صاحبها من حروب ومعاهدات سلام وتحولات هوياتية إلى أن حلها نابليون عام 1806 (حل الإمبراطوريا الجرمانية).

وبرجوعنا إلى الوراء نلاحظ أن سيرورة التاريخ، من منتصف القرن السابع ميلادي، عرفت نشأة إمبراطوريتين على تماس مع الإمبراطوريا الرومانية المسيحية: الإمبراطوريا العربية الإسلامية والخزرية اليهودية (أصبحت كييف ضمن الامبراطوريا الخزرية منتصف القرن التاسع)، وجراء توسع الإمبراطوريا الخزرية إلى كييف برزت لأول مرة القومية الروسية في غمار مقاومتها للتوسع الخزري، سقطت الإمبراطوريا الخزرية على يد الروس منتصف القرن الحادي عشر، وقد تزامن العهد المؤسس للقومية الروسية مع نشوء الإمبراطوريا الجرمانية.

ظل الفضاء الجيوسياسي يتحول من حال إلى حال، فسقطت الامبراطوريا البيزنطية والامبراطوريا الأموية الأندلسية في تاريخ متقارب (القرن الخامس عشر)، ونشأت الامبراطوريا العثمانية وطلّ عصر الأنوار الأوروبي حاملا معه تحولات جيوسياسية عميقة وبذور الدولة الحديثة في سياق الإصلاحات الدينية والسياسية غرب أوروبا، وعاشت أوروبا مخاضات مؤلمة وحروبا طاحنة أسفرت عن معاهدة وستفاليا (1648) في أوروبا الوُسطى والغربيّةِ أرست زمنا جديدا (نسقا سياسيا وفضاء جيوسياسيا) مبنياً على مبدأِ سيادةِ الدولِ.

 وفي أعقاب الثورتين الأمريكية والفرنسية أقدم نابليون على حل الامبراطوريا (الجرمانية) المقدسة (1806)، ومن هناك بدأ العد التنازلي لزوال الامبراطوريات بشكلها القديم وبدأ مع سقوطها فضاء جيوسياسي آخر سقطت الإمبراطوريا العثمانية والروسية والنمساوية والمجرية …. بداية القرن العشرين، وبدأت القوميات الناشئة تتشكل إما وفق منظور مدني أو أيديولوجي (إثني ديني)، غير أن الروس والألمان تَشكّلا من جديد على أساس إمبراطوري قومي أيديولوجي فكانت الحرب العالمية الثانية وزوال ألمانيا النازية.

 ومن سخرية الأقدار أن روسيا السوفييتية ساهمت في الحرب على ألمانيا الهتليرية التي لا تختلف كثيرا عن روسيا البوتينية، كان الاتحاد السوفييتي نسخة أيديولوجية إلحادية للامبراطوريا القيصرية الأرثذوكسية، وبعد أن تفكك تحولت روسيا إلى كيان اتحادي يحلم باتحاد أوراسي لم يقطع مع ماضيه الإمبراطوري الديني الإثني.

ترجع نشأة التاريخ الروسي إلى منتصف القرن التاسع، حيث تأسس أول كيان سياسي روسي وهو إمارة روس في كييف وقد دامت سبعة قرون إلى غاية 1547 تأسست روسيا القيصرية وعرفت توسعا إلى أن حلت محلها الإمبراطوريا الروسية عام 1721 كانت ثاني أكبر إمبراطوريا في العالم إلى أن سقطت في غمار الحرب العالمية الأولى وحل محلها الاتحاد السوفييتي الذي دام 70 عاما وحل محله الاتحاد الروسي عام 1991 وهو العام الذي نالت فيه أوكراينا استقلالها.

في منتصف القرن الخامس عشر سقطت القسطنطينية (عاصمة بيزنطا المسيحية) في يد الإمبراطوريا العثمانية، ومن منتصف القرن السادس عشر دخلت روسيا القيصرية في حرب طويلة المدى ضد الإمبراطوريا العثمانية طمعا في استرداد (القسطنطينية).

الحرب الروسية العثمانية اشتعلت على خلفية دينية وانتهت، في غمار الحرب العالمية الأولى، بدولتين لادينيتين: تركيا العلمانية وروسيا الشيوعية.

على مدى أحد عشر قرنا عاشت إمارة روس في كييف تحولات عميقة إلى أن انتهت، في سياق الحرب الباردة، إلى كيان يسمى أوكراينا وخرج من رحمها الاتحاد الروسي كما خرجت من رحمه، وهو اتحاد يضم أكثر من 80 كيانا اتحاديا وعزّ عليه أن تستقل كييف المدينة المؤسسة للقومية الروسية.

القومية الروسية التي خاضت حروبا طاحنة لاسترداد القسطنطينية، ولم تكن في مستوى التحدي، تعاقبها الأقدار بفقدان (كييف) المدينة التي نشأت منها القومية الروسية. لا يمكن أن نفهم هذا الجرح النرجسي الروسي إلا في ضوء الأيديولوجيا التي أسس لها المفكر ألكسندر دوغين.

في 2013 حاول بوتين إعادة أوكراينا إلى “حديقة الشعوب المتآخية”، أي النسخة الجديدة من الإتحاد السوفياتي، بإملاء اتفاقية “صداقة وأخوة” مع الرئيس الأوكرايني فيكتور يانوفيتش، الموالي لروسيا، الذي قيل إنه فاز في الانتخابات بالتزوير.

اندلعت انتفاضة شعبية عارمة استمرت شهوراً (كتب كوركوف يوميات الانتفاضة ونشرها في كتاب صدر العام 2014). انتصرت الانتفاضة وهرب يانوفيتش إلى روسيا واستلم الأوكراينيون الموالون للاتحاد الأوروبي السلطة.

ثارت ثائرة بوتين، اشتعلت فيه الرغبة في الانتقام. أرسل ضباطاً وفرقاً قتالية إلى المقاطعات الشرقية في أوكراينا، تلك التي تملك نزعة انفصالية وتشعر بالولاء لروسيا، دونباس، دونتسك، لوهانسك، ارتسم خط فاصل بين الطرفين ونشأت منطقة محرمة، هرب سكان القرى والبلدات، هناك. لكن البعض منهم تشبث بالأرض وقرر الصمود.

وإذا كان الاتحاد الأوروبي حديث النشأة، حيث برز في أعقاب الحرب العالمية الثانية على شكل شراكة اقتصادية بين فرنسا، ألمانيا وإيطاليا، ثم نشأ كاتحاد سياسي اقتصادي عام 1993، فإن المملكة المتحدة يرجع تاريخها إلى عام 1603، ومن رحمها خرجت أمريكا المتحدة، بين أمريكا والإتحاد الأوروبي وبريطانيا علاقات متقلبة ويتسع الخلاف ويضيق بين هذه الأطراف بشكل جدلي، وتجلى هذا الخلاف في البريكست وحِرْصِ القوميين داخل الاتحاد الأوروبي على عدم الإنسياق وراء أمريكا.

يشكل الإجتياح الروسي لأوكراينا أبرز حدث أممي من حيث تداعياته وآثاره العسكرية، السياسية والاقتصادية على العالم، ولا شك سيكون له تأثير على الفضاء الجيوسياسي وعلى القوانين الأممية ومؤسساتها، لقد كان لهذا الاجتياح أثر عميق على العلاقات الأممية، وقد تضاربت القراءات والمواقف المغاربية على مستوى الدول كما على مستوى “المثقفين” على خلفيات أيديولوجية وسيكولوجية يغلب عليها التعاطف والتسرع في أغلب الأحيان.

ولأن التاريخ البشري نسق شديد التداخل والترابط والتناقض بين الذاكرات في تجلياتها الواعية واللاواعية، يجد المتتبع المعاصر لهذه الأحداث نفسه مدعوا إلى التسلح بالحذر وبما يكفي من المعطيات ووجهات النظر حتى يضمن “وضعية” استراتيجية مأمونة تسمح له برؤية “أفق” هذه الأحداث بأكبر قدر من الاستشراف الموضوعي.

في هذا المقال المسهب، الذي ننشره على حلقات، وإذ نروم من ورائه إثارة جملة من المفاهيم والنظريات انطلاقا من مقاربة تأملية لهذا الحدث، نرمي في ذات الوقت إلى دعوة المثقف المغاربي إلى قراءة الوضع المغاربي في ضوء هذا الحدث الأممي رصدا لمكامن الخلل السياسي في فضائنا المغاربي وبحثا عن الشروط الممكنة التي تسمح بتصحيح النظر وتسديد الخطى وتقليص الأضرار والأخطاء، وبالتالي الولوج إلى “وضعية” تقي بلداننا من أي صدام عدمي بالنسق الجيوسياسي الأممي، والوصول إلى الحلول التي من شأنها أن تبني فضاء مغاربيا يكون مثالا للعيش المشترك وروح التضامن والتعاون.

https://anbaaexpress.ma/91xui

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى