
الجيوسياسة: الفضاء، النسق والفراغ
النسق الجيوسياسي الأممي
هذا النسق الجيوسياسي الأممي بطبيعته، وباعتماده بيداغوجيا العصا والجزرة، يعمل على إنضاج مفهوم الدولة في البلدان التي لم تتشبع ثقافاتها بقيم الدولة الحديثة، ولم تتمثل نخبها السياسية مفهوم السياسة بالشكل الصحيح، في بعدها القانوني والحقوقي، ما المقصود بالنضج هنا؟ إنه الأوتونوميا، أو الخروج من حالة القصور بالمفهوم الكانطي، إنه النضج السياسي بالمفهوم الحديث، والإنخراط غير المشروط في بناء دولة الحق والقانون، والتحرر من النزوع التسلطي والاستشفاء من أمراض الهوية السياسية بمعناها الدوغمائي والعنصري.
هذا النسق الأممي الذي يخشى الفراغ، هو من يملأ الفراغ بما يعثر عليه في ذلك الفراغ من طاقة، بصرف النظر إن كانت طاقة مبدعة أو طاقة مدمرة، إيجابية أو سلبية، من منطلق أن هذا النسق ينطوي على خاصية تدمير كل ما يتناقض مع القيم التي نشأ عليها، وهو في ذات الوقت مفتوح على “الشعوب” التي تتوفر على قابلية الاندماج فيه بناء على احترامها لجملة من المعايير والقيم السياسية.
ولهذا النسق صلة بمفهوم “الغرب” ويختلف عنه من حيث أن الثاني هو جزء منه وجوهره في آن. فهذا النسق نشأ مع نشأة الدولة الحديثة “دولة الأمة المدنية”، منذ حوالي قرنين ونصف، غير أن جذوره تعود إلى أربعة قرون في سياق عصر النهضة والنزعة الإنسية والإصلاحات الدينية والسياسية، أي في سياق تراجع البراديغما الكنسية إزاء البراديغما الوضعية. مع نهاية الحرب الباردة اتضحت ملامح النسق الجيوسياسي الأممي في سياق العولمة، واتضحت معه الفجوة بين فضائين جيوسياسين متناقضين: فضاء السلام وفضاء الفوضى. وإذا كان فضاء الفوضى متناقضا من حيث المقاصد متضادا من حيث الأنساق، فإن فضاء السلام ينطوي على نسق منسجم من حيث المقاصد مختلف من حيث التمثلات والرؤى الجيواستراتيجيا.
مع نهاية القرن الماضي، ظهرت كلمات ذات صلة بمصطلحي “الجيوسياسة” و”الجيواستراتيجيا”، من ضمنها: “الجيواقتصاد” و”الجيوثقافة”. ونسمع أحيانًا أيضًا بـ”الجيوتاريخ”. وقد تزامن تعميم هذه المصطلحات مع تكاثر تحليلات ظاهرة العولمة في جميع حقول العلوم السياسية والاجتماعية، مما استدعى الأخذ في الحسبان عدم تجانسية الفضاء العالمي. هنا، أصبحت نظرية التحديث محل مساءلة بعد أن أصبحت موضوع امتحان وتحت محك الثقافات المضادة. في الواقع، فقد منح الحديثون (les Modernes) الامتياز للزمان وقللوا من قيمة الفضاء المكان لاقتناعهم بحتمية تجانس هذا الأخير، وبالتالي، لاقتناعهم بعدم اكتراثه بتطور العالم. كل ما كان عليهم فعله هو انتظار منجزات التقدم البشري التي جعلت حالة التمدد الفضائي المكاني «spatialité» صامتة، على حد تعبير إدوارد سوجا (Edward W. Soja) (نحو جيوبوليتيكا نسقية، جيرار دوسوي).
منذ بضعة أعوام لاحظ محللون أن نهاية علاقات شرق-غرب أدت إلى تغيير جذري في النسق الأممي (système international)، والذي كان، من الواضح، ثنائي القطب حتى ذلك الحين. لكن مشروع النظام الأممي الجديد (Nouvel ordre international) الذي أراده الرئيس بوش الأب لم يتحقق. بعد ربع قرن، سادت حالة من عدم اليقين والمخاطر غير المتوقعة.
ظلت أمريكا ضعيفة بشكل دائم، والاتحاد الأوروبي لم يتحول إلى قوة سياسية، بينما مشروعه الفيدرالي كما لو أنه تجمد، أما روسيا فقد أظهرت قدرة على الإرباك أكثر من قدرتها على التعاون، وواصلت الصين صعودها الاقتصادي المدهش، لكنها ليست بأي حال من الأحوال قوة سياسية كبرى. أما بالنسبة للبلدان الناشئة، فهي تعاني أو ستواجه نقاط ضعف داخلية؛ ومعظمها لا يشكل حتى أقطابًا اقتصادية.
في سياق العولمة، وفي سياق تطور عوامل ووسائط التواصل الجدلي بين المجتمعات والثقافات، ظل هذا النسق الجيوسياسي يتمدد بحسب الظروف التي تسمح له بالتمدد، أو يتقلص تحت ضغط الأنساق المضادة التي تنشط في مقاومته كلما توفرت لها عوامل المقاومة؛ وهي أنساق من مخلفات البراديغما القديمة (الثيوقراطية)، أو المستحدثة من أيديولوجيات العصر الحديث.
وما يعيشه العالم اليوم من فوضى في عدد من البلدان ليس سوى تجل للتفاعل بين هذا النسق الجيوسياسي الأممي والأنساق المضادة. بل حتى البلدان التي أسست لهذا النسق تدفع ضريبة هذا التحول. بمعنى آخر، يمر النسق الجيوسياسي الأممي بمحطة جديدة في صدامه مع الأيديولوجيا من داخله ومن خارجه. أما المؤسسات والقوانين الأممية التي أنتجها هذا النسق، أصبحت محل نقد ومراجعة، وستخضع إلى التطوير في الأفق المنظور.
في غمار الأزمات السياسية التي تتعرض لها بعض “الدول الفاشلة” وما يترتب عنها من تدخلات خارجية، أو بسبب الصراعات وتمددها في “الفضاء الحيوي”، يحدث الصدام بين النسق الأممي والأنساق المضادة، وقد ينتهي الصدام إلى تسوية كما قد ينتهي إلى حرب غالبا ما تجد في مسألة الأمن مبرراتها وذرائعها، ولا سيما تحت ذريعة “الفضاء الحيوي” كما حدث في ألمانيا سابقا والاتحاد الروسي حاليا.
في الوقت الذي يستلهم فلسفته القومية من هتلر، يحاول بوتين أن يقف على الطرف النقيض منه، هناك مفارقة في فلسفة بوتين، من جهة يتبنى المعجم الفلسفي السياسي المعادي للنازية، ومن جهة ثانية يجتاح تراب دولة سيدة معترف بها أمميا بدعوى تأمين فضائه الحيوي.
يشكل الاجتياح الروسي لأوكراينا أبرز حدث أممي من حيث تداعياته وآثاره العسكرية، السياسية والاقتصادية على العالم، ولا شك سيكون له تأثير على الفضاء الجيوسياسي وعلى القوانين الأممية ومؤسساتها. لقد كان لهذا الاجتياح أثر عميق على العلاقات الأممية. وقد تضاربت القراءات والمواقف المغاربية على مستوى الدول كما على مستوى “المثقفين” على خلفيات أيديولوجية وسيكولوجية يغلب عليها التعاطف والتسرع في أغلب الأحيان.
ولأن التاريخ البشري نسق شديد التداخل والترابط والتناقض بين الذاكرات في تجلياتها الواعية واللاواعية، يجد المتتبع المعاصر لهذه الأحداث نفسه مدعوا إلى التسلح بالحذر وبما يكفي من المعطيات ووجهات النظر حتى يضمن “وضعية” استراتيجية مأمونة تسمح له برؤية “أفق” هذه الأحداث بأكبر قدر من الاستشراف الموضوعي.
في هذا المقال المسهب، الذي ننشره على حلقات، وإذ نروم من ورائه إثارة جملة من المفاهيم والنظريات انطلاقا من مقاربة تأملية لهذا الحدث، نرمي في ذات الوقت إلى دعوة المثقف المغاربي إلى قراءة الوضع المغاربي في ضوء هذا الحدث الأممي رصدا لمكامن الخلل السياسي في فضائنا المغاربي وبحثا عن الشروط الممكنة التي تسمح بتصحيح النظر وتسديد الخطى وتقليص الأضرار والأخطاء، وبالتالي الولوج إلى “وضعية” تقي بلداننا من أي صدام عدمي بالنسق الجيوسياسي الأممي، والوصول إلى الحلول التي من شأنها أن تبني فضاء مغاربيا يكون مثالا للعيش المشترك وروح التضامن والتعاون.