ثقافة

حين تنطق الوثيقة (5)

الجولة الثانية..السياسة والدولة والحداثة من منظور الرّحالة والسُّفراء المغاربة(3-4)

الهجاء لا يفارق الإعجاب

لا يتعلق الأمر بتفوّق في التجرّد الموضوعي عند وصف الآخر. مثل هذا نجد له فصولاً ومواضيع كثيرة عند الرحالة ابن عثمان. غير أن هذا التردد بين الإعجاب والهجاء مقصود وتربوي وأيضاً يعكس إرادة لاستنهاض الأنا من تحت ركام هذا الانحطاط الحضاري الذي أصابها. من هنا موقف الاعتزاز والنظرة الدونية والهجاء لبعض مظاهر هذه المدينة. لم يحجب الإعجاب تلك الصورة المقززة التي نقلها الرحالة ابن عثمان في كتابه، بل إنه ينظر إلى الآخر نظرة دونية وأيضاً يقف موقف نفور من بعض مظاهر تلك المدينة. وتظهر هذه النظرة الاستعلائية عند ابن عثمان كلما تعلق الأمر بالموقف الديني من السلوك المدني الأوروبي. إنها نظرة تقليدية للفقيه المسلم من عموم الكفار. ولهذا كلّما تحدث الرحالة عن بلدة من هذه البلدان أردفها بالقول تحسراً: «أعادها الله أرض السلام». بل حتى لمّا كان يذكر ملك تلك البلاد، لا يسميه باسمه. على الأقل كما تفرض أعراف اللّياقة الدبلوماسية الحديثة. بل كان يسميه بالطاغية حتى لو أقر له ببعض المكارم. ومثل ذلك تحسره على كل الآثار الإسلامية في أوروبا. يذكر مثلاً ما حدث لبعض المنشآت الإسلامية هناك: «إلا أن الكفار الساكنين بالصومعة المذكورة قد أفسدوا داخلها بالبول والقذرات حتى لا يمكن للإنسان أن يطلع إليها إلا ممسكا أنفه من شدة النتن. طهر الله منهم البلاد وجعلهم فيئاً وغنيمة للعباد»[16].

الآخر والموقف من ثقافته ودينه

صورة تظهر القارة الأوربية في حالة سجود تقبّل رأس المغرب

يتناول ابن عثمان وضع الراهبات ومسألة العزلة والانقطاع عن الزواج وما شابه بالكثير من النقد والهجاء. وهو هنا يعكس موقف قيمي وديني وثقافي لا يختلف عن الجمهور المغربي حينئذ. وقد لا يكلف نفسه نقد الظاهرة بتأملات نظرية، بل يحاكمها ويسلّط عليها أكثر أشكال الهجاء، ببساطة تؤكد أن الرحالة هنا مسكون بشيء واحد، ألا وهو مواقع قوة الآخر. تلك القوة التي لا يجب أن نقرأها في كل مظاهر عمرانه، بل إن لها تجليات في مجالات ومهارات وأذواق خاصة دون ما نراه في عوارضها ذات الصلة بخصوص عوائده الثقافية والدينية. فبقدر ما تمارس تلك المظاهر من حالة تسلط على ذهنية الرحالة بمقدار ما يسلّط انتقاده اللاذع وتفوّقه الديني والقيمي على هذه المدنية. يقول منتقداً أوضاع الرهبنة: «وشأن هؤلاء الراهبات في عزلتهن مناكر معتكفات عليهن، قد جالوا من المساحقة في مجال مع إبليس حيثما جال، واستغنوا بذلك عن الرجال». أما البابا، نظراً لكونه يحل لهم الحرام ويحرم عليهم الحلال فإنه «فإذا مات البابا كبكب في الجحيم وتجرع الحميم»[17].

إن مظاهر الفسوق والانحراف مظاهر بادية استوقفت الرحالة السفير ابن عثمان، لكن ملاحظته كما هو شأن الكثير من الرحالة المغاربة كانت قاسية. أقسى من موقف الطهطاوي الذي حاول أن يتفهم بعضاً من هذا السلوك، ويعدّله بسلوك أحسن. فإن ابن عثمان يقف عند الغيرة ولا يميز ولا يجزّئ كما فعل الطهطاوي؛ بل عبّر عن موقفه بصراحة: «فتجد الرجل جالساً وامرأته أو بنته ترقص مع أجنبي ويناجي بعضهم بعضاً خفاءً، ولا حياء؛ وكلام الناظرين يذهب جفاء ولا يبالي أحد بذلك، مع ما هو معلوم فيهم وشائع في بلادهم من الفسق والزنا، ويعرف ذلك بعضهم في بعض، ومع ذلك فلا يبالون بشيء: فقد جبلوا على عدم الغيرة قبحهم الله وطهر البلاد منهم»[18].

هناك ما يلفت في سلوك الرحالة المغربي، لا سيما المنتمي إلى سلك البعثة الدبلوماسية أي السياسي ألا وهي النظرة الاستنكارية والاستعلائية. لا يزال الرحالة المغربي مائلاً إلى نمط الرحلة عند بن بطوطة حتى بعد إدراكه نمط الرحلة الطهطاوية. فالاستعلائية حاضرة هنا حتى في ذكر ملكهم وحاكمهم. فهو لا يسميه إلا «الطاغية» كما ذكرنا:
«وقد بالغ هذا الطاغية في إكرامنا وتعظيمنا».
«لعلمهم أنه يستجلبون بذلك إليهم خاطر طاغيتهم».
«فقدّم إلينا الكدش الذي بعث الطاغية لركوبنا».
«عادة الطاغية فيمن يرد عليه من وفود الملوك أن يضيفه ثلاثة أيام ونحن من شدة أعنائه بسيدنا ومولانا أمير المؤمنين أكرم مثوانا وأحسن ضيافتنا اثني عشر يوماً التي قبل الملاقاة»[19].
«إن رؤساء مالطة شرذمة من بني ملاقطة مجتمعون.. الذين لهم في إذاية المسلمين تحديق..»[20]

أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار

يجب أن نذكّر بأن رحلة ابن عثمان هي نموذج لرحلة مبكرة ساد فيها الاعتزاز بالقوة والمجد؛ النظرة الاستعلائية لم تزل قائمة. ولم يكن الأمر يتعلق برحلة في مناخ الهزيمة كالتي حصلت عند هزيمة إسلي. لكن الوضع سيختلف عندما يتعلق الأمر برحلات لاحقة. فمع رحلة محمد الصفار أو العمراوي أو من جاء بعدهما نجد ملامح الإحساس بالفجوة المدنية، والحسرة الشديدة إزاء تفوق الفرنجة على العالم الإسلامي عموماً والمغرب خصوصاً. وكما ذكرنا، كان لهزيمة معركة إسلي تأثير كبير فيما بعدها من سنوات. ورحلة محمد الصفار الأخيرة حدثت بعد الهزيمة بسنة واحدة فقط، أي سنة 1845م، حيث حصلت الهزيمة سنة 1844م. بالتأكيد لن تقف على الإحساس نفسه ومصدر القوة نفسها. حتى مع كونها رحلة سفارية شأنها شأن رحلة ابن عثمان مثلاً. وحتى حينما يطَّلع رحّالة مغربي على رحلة رفاعة الطهطاوي، فإنه بعد إيسلي سيستوعب مضامينها النهضوية أكثر مما حصل قبل ذلك. إذن لا شك في أن للظرفية والشرط الموضوعي مدخلية في وتيرة الوعي بهذا الفارق الحضاري وبالمهام المطلوب إنجازها على صعيد النهضة.

كان سبب رحلة الصفار إلى الديار الفرنسية قراراً من السلطان عبد الرحمن. وكان قد تقرّر بعث عبد القادر أشعاش عامله على تطوان للرحلة إلى فرنسا. وحينئذ طلب منه اختيار «عالم يقيم أمر الدين من صلاة وقراءة»[21]. إنها نفسها وضعية رفاعة الطهطاوي إلى حدّ ما. إلا أن رحلة الصفار جاءت في سياق وفد دبلوماسي. وقد تميّز الصفار بالنباهة والذكاء والبحث. حتى كتب عنه بوميي Peaumier إلى دوشاستو De Chasteau يقول: «إن الفقيه.. مشغول طوال الوقت. إن لديه موهبة عقلية نادر، وهو بصدد إنجاز بحث حقيقي، فقد كتب أشياء كثيرة»[22].
في رحلة الصفار نجد تشابهاً وتقارباً بينها وبين رحلة رفاعة الطهطاوي. من ناحية أولى، نجد أنها على الرغم من أنها تدخل في جنس الرحلة السفارية، إلا أن وظيفة الصفار كانت هي نفسها وظيفة الطهطاوي في البعثة، كما مرّ معنا. أي وظيفة مرافق أو مرشد ديني في البعثة. وكان الصفار مثله مثل الطهطاوي (عالم دين)، ذاك من الأزهر وهذا من القرويين. وقطعاً يبدو أن الصفار اطَّلع على تخليص الإبريز في تلخيص باريس لرفاعة الطهطاوي، لأن ثمة عبارات وأوصافاً متقاربة جدًّا بينهما. وأحياناً نلمس تأثيراً في الأسلوب يصل إلى حدّ النقل الحرفي، كقوله مثلاً عن باريس: «اعلم أن هذه المدينة هي قاعدة بلاد الفرنسيس وأم حواضرهم وكرسي مملكتهم ومسكن عظمائهم..»[23]. أو كقوله في وصف التياتروا: «ويزعمون أن في ذلك تأديباً للنفوس وتهذيباً للأخلاق وراحة للقلب والبدن..» [24]. أو كحديثه عن القوانين التي سنها لويس الثامن عشر بخصوص حرية التعبير والنشر في الكازيطات[25].. أو وصفه أهل باريس بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر[26]. أو وقوفه عند استقباحهم للتشبيب والغزل بغير النساء[27]. وغيرها من الأوصاف التي رأيناها عند الطهطاوي وهي هنا عند الصفار حاضرة حرفيًّا. هنا يمكننا القول: إن رحلة الطهطاوي شكّلت خريطة طريق للمحاولة الوصفية للصفار وبعض الرحّالة المغاربة من بعده بتفاوت ملحوظ. وفضلاً عن ذلك يعد كتاب «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، مخصصاً لوصف باريز. في حين أن الصفار خصّص من كتابه فصلاً كاملاً (الفصل الثالث) في ذكر مدينة باريز، وهو الفصل الأكبر من بين 6 فصول أخرى.
جاءت الرحلتان معاً في ظروف الاحتلال والهزيمة والإحساس بالتحسر إزاء مظاهر التفوق والغلب الحضاري الأوروبي. فحينما يصف الصفار جغرافيًّا المعمور من الأرض ويصل إلى ذكر الجزائر يقول: «ثم وهران والجزائر وسائر ما كان من عمالتها، وهي الآن بيد الفرنسيس»[28]. وحينما يصف إحدى الاستعراضات العسكرية:
«ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل ناراً، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتبيهم ووضعهم كل شيء في محلة، مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعدادهم، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم، وما أقدرهم على الحروب ما أقواهم على عدوهم، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب واتِّباع قوانينهم التي هي عندهم لا تنخرم»[29].

إن الصفار هنا يستحضر ضعف الجيش المغربي في هزيمة «إسلي»، حيث سنجد الكثير من المؤرخين يعزون ضعف الجيش المغربي أمام الفرنسيس بل حتى في مواجهة الثورات الداخلية، راجع إلى هشاشة البنية التحتية والقوانين التي لا تُرغِّب الجيش في القتال وبتعبير آخر إلى الفساد.. لذلك نجد الصفار يصف الجيش الفرنسي ويقف على سر قوّته وبذله المهجة نظراً لما يحيط به من حسن تدبير هذا القطاع الحساس والحيوي إداريًّا وقانونيًّا وتربويًّا: «إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليه شريعتها، سواء كان رفيعاً أو وضيعاً، وإن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوا درجتها، لا يطمع أحد منهم في غير ما هو له، ولا يخاف على ما في يده أن ينزع منه، فعلى ذلك يبذلون مهجهم في المعارك، ويلقون بأنفسهم في المهالك، ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب، مع كفرهم وانمحاء نور الإيمان من قلوبهم، وما راءٍ كمن سمع… إلخ. الله أعد للإسلام عزته وجدّد للدين نصرته بجاه النبي صلى الله عليه وسلم» [30].
الحسرة التي عانى منها المؤرخ والرحالة المغربي، هي حسرة هيبة دولة ظلت مستقلة طيلة هذه الحقب. وحين قررت أن تقوم بتحديث هياكلها، لجأت إلى أساليب نقل الإدارة والتقنية عبر إرساليات سفارية.
لم تترك رحلة الصفار شيئاً من معالم المدينة إلا وصفته وصفاً دقيقاً. لكن يظل هناك فارق، هو أن الصفار لم يطَّلع على التراث الفلسفي والأدبي الفرنسي بالشكل الذي رأيناه مع الطهطاوي. لعل السبب هو أن الرحلة سفارية فيها الكثير من الانشغال والالتزام، وأيضاً لأنها لم تدم أكثر من سنة واحدة. نجد مع رحلة الصفار انضباطاً وأيضاً وصفاً موضوعيًّا يقترب من طريقة الطهطاوي وهذه المرة لا يكون مع الطاغية بل يتحدث لغة دبلوماسية أهدأ من تلك التي وجدناها عند السفير ابن عثمان. فهو يصفه بـ: «عظيم جنس الفرنسيس». يقصد بذلك الملك لويس فليب (1830 – 1848) وعادة ما يكنّيه بالسلطان. وهو تعبير مخزني. وصف الصفار على الطريقة نفسها باريس، وأحياناً يعيد ذكر المعلومات نفسها؛ عدد السكان الذي بلغ حينئذ المليون الواحد، العمارة الحسنة وحسن التدبير والنظام.. كما يشير إلى خلو البلاد من السكن العشوائي: «واعلم أن هؤلاء القوم ليس عندهم في مساكنهم أخصاص ولا خيم ولا نوايل وإنما يعرفون بالبناء لا غير»[31].
كما يذكر ما لهم من صفات الجدية في العمل والإتقان والتعمير.. فلا وجود لأرض غير مغروسة ولا يوجد عندهم خراب أو أرض موات «حتى أن الأرض التي ترابها رديء ينقلون لها التراب الجيد من أرض أخرى». فالغراسة فن شائع هناك. وعملية الغرس في كل مكان حتى في حافات الأنهار ومجاري الخنادق بالمعالجة والعناية… وثمة قوانين لتنظيم الزراعة وأيضاً لحفظ حقوق الفلاحيين.. ويذكر من عجائبهم أنهم كانوا يُحلّون ماء البحر حتى يصير عذباً شروباً.
ويحضر السؤال الديني في متون الرحلة حضوراً معياريًّا مكثفاً، يؤكد أن سؤال النهضة في المتن الرحلوي يفرض جملة من الأسئلة التي تستدعي الخطاب الديني. إننا في لحظات تاريخية مثّل فيها الخطاب الديني المصدر الأكثر أهمية لمنظومة القيم الجماعية وعلاقات السلطة. فالرجوع إليه بين الفينة والأخرى، يشكّل ضرورة وظيفية كما يعكس بنية اجتماعية وسياسية وثقافية معيشة. وفي مثال رحلة الصفار نجد حضوراً يماثل حضوره في رحلة الطهطاوي ويعكس الهاجس ذاته، مع شيء من التموقف العقدي والديني، يتجاوز مستوى التعارض الديني التحديثي إلى مستوى التعارض الديني الديني. يتحدث عن الدين، ويتحدث عن الصليب العظيم المنصوب وصورة الشخص المصلوب التي أفزعتهم، لزعمهم أنه المسيح، وهو يؤكد أنه معبودهم، الذي ينزل عيسى ليكسره تكذيباً لهم وإبطالاً لدين النصرانية، ويعبر عن موقفه الصارم من هذا الاعتقاد قائلاً: «وما زادتنا رؤية ذلك إلا تبصّراً بكفرهم واطِّلاعاً على إبطال معتقدهم وسخافة عقولهم، فالحمد لله الذي هدانا للملة الحنيفية»[32].
كما يحضر الهاجس الثقافي حضوراً تعكسه لحظات الوصف التي تعكس أذواق ورغائب الرحّالة نفسه. وعلى طريقة الطهطاوي يصف الصفار مظاهر باريس الثقافية، ويستوقفه التياتروا، فيظهر له أن ذلك ليس مجمعاً للحرافيش والأوباش، بل يحضرها الأكابر وأهل المروءة. وذلك يحدث راحة في القلب والبدن يعينه على العمل مجدداً. كما يتحدث عن الإعلام وأنه سبب اطِّلاعهم على الأخبار، حيث ربما يكون ما فيه كذباً أكثر مما هو صدق، ولكنها تتضمن أخباراً تتشوف النفس للعلم بها ولها عندهم فوائد، كالاطلاع على الحوادث والأخبار[33]. الثقافة إذن ليست ترفاً بل مطلوبة للترويح على النفس لاستئناف العمل. فأهمية العمل قصوى في تلك الديار. ما جعل العمران الباريسي والأوروبي عموماً غاية في الترقي والتقدم. هنا يتحدّث الصفار عن العمل وانعدام البطالة وتنظيم الوقت ومشاركة المرأة في العمل وتحديداً في التجارة. ويبرز الصفار الجوانب الأكثر إيجابية في ثقافتهم وسلوكهم وطباعهم وتقاليدهم. وعموماً ليس هناك شيء زائد عما ذكره الطهطاوي. فعوائدهم تميل للمرح والخفة والمروءة (الدنيوية) وأيضاً الآداب والتخلّق في الحديث والاحترام والتسامح «ولا يتعرضون للغريب من دينهم أو من المسلمين بسوء ولا ينادي عليه صبيانهم ولا يؤذونهم كما يسمع على غيرهم من بعض أجناس النصارى»… وهذه العوائد يتعلمونها ويقرؤونها ويدونونها في الكتب لتكون لهم بذلك المزيد على غيرهم. وقد اختصوا من بين أجناس سائر النصارى بالأدب والحضارة والمروءة الدنيوية[34].
إن رحلة الصفار هي صورة أخرى تعزز رحلة الطهطاوي وتؤكد نتائجها. فتجد أن الصفار في مواضع مختلفة يرى أن كل مظاهر المدنية الباريسية ليست غريبة عن الإسلام. بل إنه بطريق غير مباشرة يسعى لذكر نظائرها في ثقافتنا، عبر أمثلة شعرية، كأنه بصدد منحها تأصيلاً إسلاميًّا. فتجده في وصف التياتروا مثلاً وما فيه من المرح والنكتة والمزاح ما يريح القلب والبدن، الضروري لاستئناف الشغل والنشاط، يقول: أفد طبعك المكدود بالجد راحة  +++  يجم وعلّله بشيء من المزح[35] ثم يعطي من «السنة» قصصاً عن ضحك الصحابة ومزحهم ويعطي أمثلة عن بعضهم وما عُرفوا به. كما يعلّق بعد ذكر أمر الكازيطات والإعلام، أن بعضهم ينشر رأيه في الإعلام ليروا إن كان سداداً فيتّبعونه حتى وإن كان صاحبه حقيراً، فيقول:
لا تحقرن الرأي وهو موافـق+++ وجه الصواب إذا أتى من ناقص
فالـدر وهو أجل شيء يُقتنى+++ ما حـطَّ قيمته هو أن  الغائص
وعن شغفهم بالعمل وذمهم الفقر يعلق:
ذريـني للغـنى أسـعى فإني +++ رأيت النـاس شـرهم الفقـير
وأحقرهم  وأهـونهم عليـه+++ وإن كان لـه نسـب وخـير
وعن ذوق نسائهم في لبس السواد ومواتاته لهن أكثر من غيره من الألوان، بأبيات وأيضاً بقصة وقول الدرامي:

 قل للمليحة في الخمار الأسود +++ماذا أردت بزاهد متعبد
هكذا دواليك، أراد الصفار من خلال هذه التعقيبات والتعليقات، إثبات نوع من التأصيل لهذه العادات والأعراف بما يؤكد فكرة التعارف. وليؤكد أننا أولى بها وأن وجودها مهم في قيام النهضة والحضارة. وهي خطة كل رواد النهضة ورموز الإصلاح، غالباً ما يسعون لتدريب العقل المحلي على القبول بثقافة الآخر حينما تكون محل شراكة واتفاق حتى لا تحول هواجس الخواف من الآخر دون الأخذ بأسباب الرقي الاجتماعي والأخلاقي. لقد رام هذا الجيل أن يخفف من غلواء هذا الخواف عكس ما حصل في زمن الانتكاس حينما أصبح المطلوب تعميق العزلة الشعورية وتصعيد الخلاف إلى أقصاه كما لو لم يكن في نهضتهم ما يصلح لنهضتنا. لم يبرح الصفار في رحلته أسلوب الطهطاوي في الوصف والتعليق. وتتجلّى قيمة ما قدمه في تعزيز وتزكية وتأكيد المضمون التربوي الذي انتهجه صاحب تخليص الإبريز في تلخيص باريز.

الرحّالة محمد عبد السلام السائح  (1922) م

هناك نموذج آخر لرحّالة مغربي سفاري، هو محمد بن عبد السلام السائح. ابتعثه السلطان يوسف بن الحسن برفقه محمد الهواري قاضي الثغر الطنجي سابقاً لحضور تشييد الجمهورية الفرنساوية للمعهد الإسلامي بباريز تذكاراً لمشاركة المسلمين الإفريقيين لها في الحرب الكبرى (فبراير 1922).
مثال آخر عن موقف موسوم بالاستعلاء والاعتزاز بالنفس والاحتفاء بالهوية. فالوصف وإن عبّر عن بعض من الإعجاب والدهشة، إلا أنه استقبح الكثير من الثقافة الأوروبية تماماً كما فعل السفير ابن عثمان أو الصفار وغيرهما. فالإعجاب يبلغ مداه إلى حد يبعث على نظم الشعر وصفاً لهذه الديار. وقد طاف وجال واطَّلع على كل رحّالة ذهب إلى تلك الديار. مع محمد عبد السلام تجوب الشوارع وتشاهد العمارة وتستمتع بالحدائق وتزور المتاحف وتركب التياتروا. فهو يصف ما رأى. لكنه يحسن وصفه ويزيدك بعضاً من الخيال. لقد غرق في وصف بعض من تلك الملاهي حتى قال: «ولهم نشيد ورنين، وللموسقيين تطريب وتلحين إلى مطارحة ذكران ونسوان، وأزيا ما أنزل الله بها من سلطان، حتى خُيِّل لي أني في عرس بلقيس في عالم الأباليس. مما كان أجرى المقام بقول أبي الطيب:
ملاعب جنة لو سار فيها+++ سليمان لسار بترجمان[36] الأدب الساخر في الإنشاء الرحلوي لابن عبد السلام يضفي الكثير من الملاحة على الوصف. والإعجاب يأخذ هنا حقه كما يأخذ الهجاء حقه أيضاً. إنه الرّحالة الذي طاف هذه الأماكن بزيّه المغربي التقليدي المثير للغرابة عند الفرنسيين. لا سيما وقد كان يجول جولات خاصة خارج الترتيبات التي يقتضيها البروتوكول. وكثيراً ما سعى هو نفسه لافتراض انطباعات الآخر من لباسه وذوقه وتقبل دهشتهم بالكثير من روح النكتة والدعابة. فاللباس المغربي وإن أصبح مألوفاً عند البارسيين إلاّ أنه في بوردو ليس كذلك. لذا ما فتئ يحدّق فيه الجميع تعجّباً بالغريب، معجبين بشكل الرحالة ويغالبهم الضحك؛ في حين «أنا أعجب من حسنهن ورقتهن وتثنيهن:
كـلانا ناظـر عجباً ولكـن+++عجبت بحسنها وتفت بشكلي[37] إن محمد بن عبد السلام السائح له نصيب من المرح والنكتة والسخرية، لكنه يبدي أيضاً موقفاً صارماً تجاه الكثير من مظاهر الفساد والانحلال ويحكم الوازع الديني بصورة صارمة، فلا تنقصه الموضوعية في الوصف عندما يتعلق الأمر بأمر مهم. فهو يعترف بحبهم للعلم وصبرهم وجلدهم على اقتنائه، «وقد تجسمت في مخترعاتهم ومصنوعاتهم علومهم الغزيرة المتنوعة تجسماً بادياً للعيان»[38].
ويستحضر المقارنة، وعينه على المغرب وهو يقول:
«إن المغرب اليوم غيره بالأمس، وإن ما يرسم في برنامج مستقبله لمومئ إلى مرامٍ بعيدة، وإن ما نشاهد به من امتزاج العناصر لأمارة على نفخ روح جديدة وإن النظر في العواقب ثمرة العقل، وإنه يمثل أمام عيني مستقبل ليست الحياة فيه بالتفوقات ولا بالأماني التي هي أحلام المستيقظ، وإنما هي نتيجة واحدة قد اندرجت فيها كل المحدقات، وبمقصد واحد انطوت فيه كل الوسائل ألا وهو العلم»[39].
من هنا تبلورت الحاجة إلى بذل الوسع في طلب العلم بحب وتعليم الأبناء. لأن به يتعزز جانبهم ويحفظون كيانهم ودينهم ولغتهم وشرفهم وأخلاقهم وأحوالهم: «العلم يحرس الدين والدين هو جامعة الأمة وحياتها». كما أن العلم هو السبب في الرقي ومتى أُهمل كان ذلك سبباً كافياً للانحطاط. ومن هنا «إذا رأيت من أمة تقصيراً في سبيله فأنذر بانقراضها، أو تساهلاً في العمل بمقتضاه فهيئ في بطن التاريخ زاوية لانقضاضها (…) وكل سلطة دونه ضعيفة النفوذ..»[40].
ومما يبدو عياناً من حديث الرحالة أنه أدرك سر تفوق أوروبا على المسلمين بالعلم، وليس إلا العلم. لذا نجده يقف موقفاً جديًّا لا هزليًّا وهو يصف كل مظاهر العمران التي كان سببها تقدم العلم وازدهاره. غير أنه لا يعير أهمية فائقة لأشكال الثقافة الأخرى التي يصفها كما يصف أحوال الطبيعة. فيمدح تارة في الوصف ويمزح ويهجو تارة أخرى ويكثر من النكات ولا يبالي. وأحياناً يستقبح ويزدري ويسخر، ما يعني أنه يميز بين ما هو ضروري للنهوض وما هو من العوائد التي لا يضر فوتها. كما أنه لا يشعر مع وجود الفارق في المدنية، بأي نوع من الهزيمة النفسية. إنه يدرك بخلاف غيره أن ما ينقص (المغاربة) الذين اتهموا بالجهل من قبل المستعمر الذي وجدها مطية للاستعمار، أو من قبل بعض المصلحين، يرى أن المغاربة -وهو يعني باقي المسلمين أيضاً- لهم كفاية من العلم والعلوم ولا ينقصهم إلا العناية بعلوم العصر. وهذا تطلّب ممكن إحرازه بالإرادة والتغلّب على عوائق التّرقي. وقد حرّض ابن عبد السلام السائح المغاربة على النهوض واكتساب العلم دون اندهاش من الفارق الكبير بيننا وبينهم. يقول: «أفلا يجعلون لأنفسهم سهماً منها، فنصبح وقد شاركنا أمم الأرض في علومهم وفضلناهم بمعلوماتنا الأخرى، ونكون قد نفينا هذه الوصمة عن جانبنا وجلونا عن هذا البهق غرة محاسننا؛ لا تقل: إن الأمر يحتاج ويحتاج، لأن له طرقاً تفضي إليه وأسباباً تدني منه. ورأيي أن كل ما كانت له وسائل، فهو سهل التناول»[41].
نشدان النهضة في نظر السائح ليس له شرط سوى إرادة النهوض. فليس من مائز يميزنا عن باقي الأمم. بل من شأننا أن نتقدم على غيرنا ونخرج من هذا المأزق الحضاري. ولذا ما فتئ يذكّر بمحامد تاريخ المسلمين العلمي، والتذكير بمجد القرويين التي كانت في القرن التاسع بمثابة الكلية الوحيدة لتلقي العلوم السامية. حتى كان الطلبة يتقاطرون إليها من أنحاء أوروبا وإنكلترا فضلاً عن بلاد العرب[42].
ندرك من خلال ذلك أن للسائح وعياً عميقاً خالصاً من شوائب الشعور بالهزيمة. بل إنك تراه يصف دون أن يعتريه شك في أن ما في يد أوروبا هو سهل المنال لو تحققت الإرادة. وبأن المسلمين لا ينقصهم إلا العلم. بل ولا يعير أهمية لثقافتهم لاسيما عندما يتعلق الأمر بمظاهر السلوك. فهو يقدّره لكنه لا يراه ضروريًّا. بل وأحياناً يسخر منه أيما سخرية. ويكفي مثالاً على ذلك القصة والتعليق الذي ذكرهما رحالتنا، ولنقارنهما بنظرته للعلم وترقب المستقبل؛ يقول:
«وفي أثناء تجولي، مررت بكنيسة فأغراني حب الوقوف على الآثار بالدخول إليها والتجول فيها لولا أنه كدر صفوي بها شخص من جملة الواردين مصفر اللون قد تقبض جلده وتقنسر كأنه جسم مصبر. قال لي: لا بد أن تنزع العمامة عن رأسك إعظاماً وإجلالاً كما ترى الناس ينزعون قبعاتهم. فأبيت ذلك فكرر وأكثر من الطنطنة بتلك الرطانة. فقلت له ليس العمامة كالقبعة التي يمكن نزعها بكل سهولة وبدون أدنى آفة تلحقها. وكيف الحال إذا اختل نظامها واختلطت أطرافها وانسلت قلنسوتها؟ ومن لنا في هذه الديار بحجام حاذق ينسقها ويرجعها بقلبه وأين هو؟ ومن لنا به؟! وأنا قد تنكبت الدخول هنا إلى الحلاق مع حاجتي إلى الحلاق، خشية أن تطغى حديدته على الأذقان فنصبح كالمردان. ونصير محل الإعجاب عند الرجوع والإياب، ثم قلت لرفيقي: ما لنا والدخول إلى هذه الكنائس التي لا تحترم فيها العمائم والقلانس ويجحد فيها تعب الحجام؟ فإلى الأمام، إلى الأمام»[43].
ثم يردف قوله بملاحظة يبدي فيها حجم الفارق الثقافي بين العالمين، ويظهر تفهماً كبيراً للاختلاف. وهو ما يؤكد أن السائح كان ساخراً من الفوارق الثقافية لكنه على إدراك بأسبابها ومتفهماً لمضامينها. فيعود ويؤشر إلى ما يقرّب الآخر إلى الأفهام ويعرض ما اختلف من ثقافته على قاعدة التعارف، فيقول:
«يعتبر الإفرنج رفع القبعة عن الرأس من مظاهر التعظيم بخلاف أعرافنا: فإن نزع العمامة بمحضر الملأ ربما عُدَّ من خوارم المروءة، ونزعها عن رأس الغير ضرب من الإهانة. وبنى الفقهاء على هذا العرف -الذي يعد تحكيمه في جملة أصول الفقه- أن نزع العمامة من أنواع التأديب والتعزير. يقول أبو الضياء خليل في «مختصره» الجليل:
وعزوة الإمام لمعصية الله والحق أدهى حبساً ولوماً وبالإقامة ونزع العمامة وضرب بسوط أو غيره»[44].

 محمد ابن الحسن الحجوي في رحلته الأوروبية

تعتبر رحلة الحجوي إلى باريس من نوع الرحلة السفارية. فقد رحل برفقه الوزير الأكبر وتسعة أعضاء آخرين منهم الحجوي بوصفه نائباً عن فاس عاصمة العلم وعن المغرب الشرقي لحضور عيدي الجمهورية الفرنسية وصلح النصر. وتحيل رحلة الحجوي إلى البلاد الأوروبية على نموذج قريب من تجربة الطهطاوي في عمق الإحساس بسؤال النهضة وأولويته إزاء سؤال الهوية. وهي تجربة تتميّز بنباهة صاحبها حيث جمع بين الوظيفة السياسية والبحث العلمي والنشاط التجاري. إنها تجربة فاعل سياسي إصلاحي، لم يقف عطاؤه عند سرد أحوال الرحلة، بل لا يزال يقدم من المشاريع الإصلاحية ما طال بالاهتمام والمعالجة كافة القطاعات. وعلى الرغم من أن باريس كانت هي إحدى أهم مدائن الإفرنج التي تعرّض لها رحّالتنا بالوصف الدقيق وأظهر فيها من الإعجاب الكثير، إلا أنها لم تكن هي أفق الرحلة الحجوية الوحيد. لقد أضاف إليها أفقاً آخر هو مدينة لندن. لم تنحصر مقارنته بين المدنية الأوروبية والمغرب، بل قام بنوع آخر من المقارنة الدقيقة بين باريس ولندن. وهو ما لم نلحظه عند الطهطاوي الذي ارتقت باريس عنده إلى رئيس كرسي بلاد الفرنجة. مع الحجوي هناك ما يميز باريس عن باقي البلاد الأوروبية. لكن هناك في لندن ما تميّزت به هذه المدنية عن باريس نفسها. إن رحلة هذا الأخير الموسومة بـ(الرحلة الأوروبية) تنقسم إلى قسمين: رحلة سفارية، دبلوماسية إلى فرنسا أعقبتها رحلة حرة بقصد السياحة والتجارة إلى لندن. و «الرحلة الأوروبية» ليس كتاب الرحلة الوحيد عند الحجوي، وإن كان هو الأهم، بل للحجوي كتب وصف فيها بلداناً كان قد سافر إليها من قبل، كالجزائر وتونس والأندلس والحجاز. فلا زالت مكتبته تتضمن كتباً رحلوية نظير: مسامرة الزائر برحلة الجزائر (ذكرها عبد السلام بن سودة في دليل مؤرخ المغرب الأقصى)، وحديث الأنس عن تونس (ذُكر في المرجع نفسه)، والرحلة الأندلسية الفيشية والرحلة الحجازية المصرية. بالجملة إنها -حسب عبدالله سعف وألان روسيون مترجما الرحلة- أول رحلة مغربية قدّمت باللغة العربية صورة إيجابية في مجملها عن فرنسا. وطبعاً يضاف إليها رحلة الصفار. ومما زاد رحلة الحجوي قوّة أنه قبل أن يكتب رحلاته كان قد اطَّلع على رحلات سابقة واهتم بها. كما لخّص بعضها الآخر. كذلك فعل مع رحلة ابن عثمان المكناسي من خلال كتابه «أنس السائر في اختصار البدر السافر». ويعتقد الحجوي أن هذه الرحلة كان بإمكانها أن تفيد الملوك والكبراء لو أنها كتبت بأدب سهل. بل «ولحصلت بسببها نهضة مغربية تكون سبباً في إخراج المغرب من بحر ظلماته إلى نهار المدينة». فالرحلة إذن ليست أدباً للتسلية بل هي رسالة للنهضة والإصلاح. كذلك فهمها الحجوي، ولهذا السبب تحديداً طوّر الكتابة الرحلوية لتخدم هذا الغرض وتتكيف مع النشاط الإصلاحي. فسعى إلى خط رحلته بهدف تقديم وصف يساعد على التمدين وإحداث النهضة. ولهذا الغرض أيضاً، حاول قدر الوسع تجنّب الإنشاء الصعب في الوصف وتيسير العبارة لتحصل الفائدة. كما تجنب القسوة في وصف المظاهر السلبية في أوروبا والتركيز على الفوارق المدنية. لأن المقصود من وصف الرحلة ليس التسلية والاستئناس، بقدر ما هو تحريض المغرب على سلوك طريق المدنية. ولهذا السبب نجده يتحدث بقسوة عن ظلمات المغرب وعن الانحطاط وكل ذلك، لأنه كان يريد الإصلاح ويحمل همه بلا هوادة. ذلك لأن المصلح لا يجامل الفساد ولا يهادن التخلف. فقد تراجع معه سؤال الأنا والهوية وبرز بشكل كبير سؤال النهضة والترقي. فعبّر عن مقصوده من الرحلة التي وافقت 1919م بأمر من الملك يوسف حينما قال: «ورأيت أن أقيد ما شهدت في رحلتي هذه، لإفادة أهل المغرب الذين لم يرحلوا ولم يعرفوا شيئاً من أحوال أوروبا»[45].
لم يكن الحجوي يتكلم الفرنسية. كما أنه لم يتيسر له -كما هو حال الطهطاوي- تعلمها هناك. لكنه رأى أن رحلته استطاعت أن تقدم ما هو مفيد، «لا سيما لعلمائنا الذين لو يرحلون لتلك الديار ويتصورونها بصورة لا تنطبق على الحقيقة عند الاختبار»[46].
ونلاحظ أن الدهشة والإدهاش أحياناً يكونان استراتيجيتين مقصودتين في أدب الرحلة. لذا لم تخل رحلة الحجوي من التعبير بلسان العجائبي والغرائبي. لكنه أيضاً كمصلح واقعي جدًّا، كان يعيد المتلقي إلى الواقع، ويتدارك الدهشة بأسلوب التحليل والتعليل. ولتبرئة ذهنه من دخيل الإعجاب المخل بموضوعية الوصف، أوضح حال معاينته وصدق مدعاه فيما وصف من أحوال العمران الباريزي قائلاً: «ولا تظن أنها (أي مناظر البر الجميلة بعد اجتياز البحر) ظهرت لنا جميلة في أعيننا إذ ذاك لشوقنا للبر وأنها ليست جميلة في الواقع، بل أحقق لك أن ميد البحر ذهب عني وصفا ذهني وفكري فيمكنك أن تعتمد على قولي هذه المرة. فأحقق ذلك أن الشاطئ الذي نراه هو شاطئ جميل للغاية، بل لا يكاد يوجد أجمل منه».
إذن، نحن أمام رحّالة يتكلف جهداً مضاعفاً لإثارة الإعجاب لدى المتلقي. على الرغم من أن لغة التعجب والدهشة لم تفارق الرحلة الحجوية، مادامت الدهشة مقصودة في فن الرحلة، لكنه لا ينسى واقعيته. فهو يعود ليقول، وهذا ما يدل على نباهته وعقلانيته: «وإن عجائب أوروبا كثيرة، وهي في الحقيقة ليست عجائب أوروبا بل عجائب العالم وغرائب اخترعات عقل البشر النبيه المتيقظ. ولولا أن التزمت ألَّا أخبر إلا بما رأيت لقصصت عليكم من عجائب أوروبا أو العالم، وخصوصاً في لندن وباريس اللذين هما ينبوع الحكمة الأوروبية»[47].

الحسرة والمقارنة

مثل سائر الرحالة، كانت الحسرة ماثلة في تجربة الحجوي. وتكاد تلازم تعليقه على كل ما كان موضع دهشة من رقي الفرنجة. ودائماً، بالتصريح أو التضمين، يؤكد أن المسلمين هم أولى بهذه المدنية من غيرهم. وتحصيل ذلك يرقي إلى الواجب. وأحياناً يظهر ذلك من خلال عقد مقارنة بين حال المدنية الفرنجية وحال المغرب وعموم بلاد المسلمين. الحسرة عند الحجوي ليست أمراً عابراً، ولا مسألة اندهاش. بل هي حسرة مصلح يعيش قلق سؤال النهضة ويتحسس أزمة مجتمعه ويرفض التسامح مع تخلفه. وكل أعماله الأخرى تصب بشكل مباشر في عملية الإصلاح. نستطيع معرفة حقيقة الحسرة وأبعادها كلما اطلعنا على كتابات ورسائل الحجوي وتجربته السياسية والإدارية في مجال الإصلاح. نجد هنا وهناك موقفاً يفيض حسرة ويتفجّر ألماً. ولكنه لا يقف عند الحسرة بمجرد إبداء الدهشة. بل لقد قدّم برامج إصلاحية عملية أثناء توليه لمناصب إدارية في الدولة المخزنية. ومن نظائر هذا الألم والتحسّر، مقارنته بين عدد سكان بغداد في العصر العباسي (من حيث كون عدد نفوسها مليونين) وعدد ساكنة باريس (المليون) مثل هذا ذكره الطهطاوي في تخليص الإبريز، وإعطاء أهمية للمواصلات وأيضاً الاتصالات (التلفون). ولا تقتصر المقارنة عند الحجوي بين باريس والمغرب، بل يصدق الأمر على عموم البلاد العربية والإسلامية. وقد بلغ هاجس المقارنة أوجه من خلال النص التالي:
«وقد دخلنا لغرفة فقالوا: هذه فيها الكتب التي ألفها علماء أمريكا، وهي تعدل بمكتبة القرويين ومراكش معاً إلا أنها مطبعية، فقلت في نفسي: هذه أمة جاءت في الزمن الأخير ألف علماؤها هذا العدد من الكتب وما استقلت إلا منذ نحو مائة وخمسين سنة، فما أعظم مدارك البشر إذا كان عائشاً في جو صافٍ يستنشق فيه هواء الحرية المطلق ويتغذى بلبان العلو والتهذيب، ليت شعري، ماذا ألفه علماء المسلمين في هذه المدة؟!»[48].
تبرز هنا أهمية النظام الذي تخضع له كل فعالية المجتمع ومؤسساته وسلوكه، من النظام السياسي إلى نظام المرور. وقد أشار الحجوي إلى ما كان يميز نظام لندرة لندن في نظام المرور بخلاف ما كان من أمر هذا النظام بباريز. فهنا السير يكون من اليسار. ومع اختلاف النظامين إلا أن لا أحد يصدم الآخر. وقد بدا له أن هذا النظام شبيه بما في أعراف السير في مدينة فاس لولا أن الالتزام بهذا النظام كثيراً ما ينتهي إلى اصطدام. وهنا يحمد الله أنه ليس لدينا عربات سيارة وإلاّ حصلت الكارثة. إن هذا النظام يتجلّى في عموم المؤسسات الأوروبية. ولا ننسى أن حسن التنظيم الاجتماعي هو من أبرز ما أثار ولع الرحّالة العربي الحديث في الديار الأوروبية. ويعزو له كل هذا الرقي الذي ميّز هذه الديار ووسم تلك الأمة. وهنا لا مجال لقياس ذلك بما لدينا. ففي وصف الحجوي للمجلس البلدي عبّر عن حسرة هذا الفارق الكبير. فمثلاً أشار إلى أهمية التراتبيات والأخلاق المهنية واختيار الرجل المناسب حسب الكفاءة، وذلك حينما يقول: «فتجد شيخ المدينة مثلاً أزيد أدباً ولطفاً ممن تحته في الرتبة إذ لا يرشح للمناصب الكبار عندهم إلا الكبار وليس المراد الكبار الجثة أو العمامة أو، أو، بل الكبار قلباً وعلماً وأخلاقاً»[49].
وهاهنا لا مجال لقياس ذلك بحال مدينتنا. فالحجوي يلخص وصفه للمجلس البلدي بكلام غاية في الوصف: «وأجمع لك وصف هذا المجلس بأن نقول: إنه على قدر عظمة المدينة ورفاهيتها وارتقائها فلا تقسه ببلدية فاس مثلاً»[50].
لا يزال هذا الفارق كبيراً حتى يومنا هذا بين طريقتين في التنظيم والتدبير. ما يجعل حسرة الحجوي وأمثاله من المصلحين تتوارث جيلاً عن جيل. فالمجالس البلدية في ربوعنا هي بالأحرى أوكار للفساد المهني وفشل في تدبير الشأن العام. كما أن المناصب والتراتبيات ظلّت موسومة بالطغيان والتفرد والانتهازية. والعلم والكفاءة هما آخر المعايير التي ينتخب المرشحون على أساسها. فهي غنائم حرب انتخابوية وليست تنافساً شريفاً للنهوض بمسؤولية الارتقاء بالأمة إلى منازل أفضل. وليس غريباً أن يؤدي الاهتمام بالصناعة والعلم إلى ذلك المستوى من التدبير والتنظيم في باريز لا بل في عموم فرنسا وأوروبا. فطلب العلم والمعارف هنا يصل حد الهيام (الهيام بالعلم). والتعليم هنا إجباري. يتحدث الحجوي عن مرحلة لم يكن التعليم في بلادنا إجباريًّا. مع أن التراجع في التنمية وشيوع ثقافة التخلف من شأنها أن تعطل التعليم حتى لو أصبح إجباريًّا، كما تؤكده مؤشرات العزوف والهجرة والانقطاع لأسباب وظروف تتعلق بغياب البنيات التحتية لنظام تربوي فاعل ومنتج ومبني على خطة نهضوية حقيقية. لكن مع ذلك كان وضع البلاد الأوروبية أفضل من حال بلداننا، بسبب الأمية وعدم التمدرس. فبذلك «القدر ارتقى مجموع الأمة من الحضيض الذي وقع فيه مجموع الأمم غير المتمدنة التي لا يعرف غالب أفرادها كتابه ولا أدباً ولا حساباً ولا.. ولا كأهل المغرب الأقصى مثلاً»[51].
من جهة أخرى، وإن كانت نبرة الحجوي قاسية على تخلف المجال المحلي، وإن كان يتعمد أن يستفز بقسوته تلك العقل المغربي وبالتالي العربي والإسلامي للأخذ بأسباب الرقي، إلا أنه كان يحرص على ضرب من الموضوعية في وصف عادات الفرنجة وذكر بعض مثالبهم. لكنه لا يقف عندها أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى مصلح يهمه أن يركز على عوامل التقدم التي هي هدف الخطاب الإصلاحي الرحلوي. فالمثالب المذكورة تتعلق بانزلاقات أخلاقية بعضها مركوز في أخلاق القوم وثقافتهم وليس بالضرورة أنه مقوم لنهضة القوم. فحينما تطرق إلى باريز كمدينة مدهشة يقصدها الناس والكبراء من كل بلاد العالم، أثار انتباهه ما يخرق هذا الإعجاب من انحرافات يقول عنها: «غير أنها كعبة الطائفين للتهتك لا التنسك، وركن التفرج والتفسخ لا التبرك، ومسرح التفنن في الأزياء الكثيرة والزخارف الوفيرة والرفه البارع والتهتك بدون وازع وترتيل آيات الملذات والإشباع وإيقاع المثالث والمثاني والأخذ بالقلوب والأسماع»[52].
إن الحجوي يدرك أن لا شيء قابل للنقد هنا إلا ما يتعلق بالأخلاق. وهذه من نواقص تلك المدنية. وإذا كان المصلح لا يرى ما يمنع من إقامة مقارنة بين أوروبا والبلاد الإسلامية فيما يتصل بالعمران والمدهش من صنائعها ومحاسن نظمها الاجتماعية، فإنه لا يمنع من إقامة مقارنة بين أخلاقهم وأخلاقنا؛ «إلا أن المنتقد له أن ينتقد أموراً هناك لا تناسب الأخلاق العالية، كالتكلم بكلمات بذيئة سفيهة، والرجل هناك يحضر ومعه أخوه وولده ووالده، وفيه ما يهيج شبق النفس للخنا وارتكاب الفواحش وغيرها»[53].
فالنقد هنا أخلاقي لا شيء آخر. والحكم على انحرافات المدنية الأوروبية يتم من منطلق الأخلاق المعيارية المشتركة والمدركة في الفطرة المركوزة في وجدان البشر. وقد استمر هذا النقد الأخلاقي للأدب الفرنسي إلى مراحل متأخرة كما أثار حفيظة أدباء كبار نذكر على سبيل المثال ليون تولستوي. وهو ما يعزز مشروعية نقد الحجوي لتلك الفنون الفرنساوية وعوائد ذلك الاجتماع في زمن مبكر. إلا أن الحجوي لا ينظر إلى هذا التهتك والفساد نظرة غير تعليلية. بل إنه تمثل موقفاً سوسيولوجيًّا خلدونيًّا يرى أن الفساد يساوق الرّفه والترف وما شابه. فتلك «نتيجة الرفه الزائد، والحرية المطلقة، وعدم التمسك بأهداب الدين ولاسيما النساء؛ فقد خلعن ربقة الحياء وتبرجن تبرّجاً لا يتصور فوقه إلا سفاد الحيوانات في الطرق جهاراً. إلى هذا الحد وصلوا أو قربوا منه، وفعلوا مقدماته جهراً فهذا شيء أفسد الأخلاق ولا تتحسنه الأذواق، ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع. زد على هذا كثرة البذخ والترف والتظاهر بالغنى، والفخر بالمال المؤدي إلى إضاعته (…) وهذا شيء طبيعي في الكون والشرف، كل أمة ما زاد ترفها إلا وزال شرفها، ولله في خلقه شؤون»[54].
هي الرفاهية المفرطة غير المقيّدة بوازع أخلاقي أو ديني. وضريبة التفنن اللاّمشروط أو لنقل التكامل في هذا النمط من الاستهلاك. وذلك لأنهم «تفننوا في كل شيء، وبلغوا النهاية في التمدن والرفاهية»[55].
إنه على الرغم من ملاحظاته على أخلاق القوم، لم يجعل الفساد الأخلاقي لهذه المدنية مانعاً من نشدان الرقي. فليس الفساد الأخلاقي معلولاً لهذه المدينة بالضرورة بل هو حصيلة الرفه وأخلاقيات التدبير والمعاش والإسراف. ومع ذلك يقرؤه قراءة سوسيو-اقتصادية ترتكز على السوسيولوجيا الخلدونية كما لا يخفى. من هنا بدا له أن النقد الأخلاقي لهذه المدنية مشروعاً. ولكن لا يجب أن يحجب ذلك عنّا جوانبها المهمة. ليس في حدود الصنائع العلمية البحتة فحسب، بل في العلوم الإنسانية والتدبير والإدارة والتفنّن في لعلم والمعرفة والآداب أيضاً. إنه يطلب ضرباً من المدنية المهذّبة. فالفساد في تلك المدنية يرجع إلى أسباب رئيسية ثلاثة: الرفه الزائد والحرية المطلقة وعدم التمسك بالدين. وحينئذ يمكننا اعتبار ذلك وجهاً من وجوه النقد المبكر للغرب في حدود النقد الأخلاقي للحداثة. المسألة لا تتعلق بالحرية التي كانت قبلة للمصلحين يومها، بل الأمر يتعلق بالتحلل من كل قيد أخلاقي أو ديني معياري. فالحرية هناك تقوم على معيار أصالة الفعل الفردي دون قيد أو شرط وليس لها حدود إلا فيما يهدد حرية الآخر المنطلقة والمتحللة من كل القيم. وأيضاً هناك مشكلة الرفه، لا سيما حينما يصبح ثقافةً ويغرق الاجتماع في دورة من الاستهلاك الهوسي. إننا نقف من خلال الحجوي يومها على مسألة هي محل اختلاف بين المصلحين المسلمين والغرب: آفة النظام الليبرالي، والنظام الرأسمالي. وهي اليوم موضوع للنقد السّوسيو-اقتصادي للمجتمع الغربي، ما فتئ أن قام به نقاد غربيون في مراحل لاحقة.

المقارنات بين مدائن أوروبا

تبدو الرحلة الأوروبية في وصف المدهش من مدنية باريس نموذجاً ليس إلاّ، باعتبارها ليست مقصورة على باريس، بل هي مدنية شاملة لكامل أوروبا: «ثم هذا الذي قررنا ليس خاصًّا بأهل باريز، بل عموم فرانسا يوجد فيها هذا القدر من التعلم، بل عموم أوروبا تقريباً»[56].
<span;>ولقد أقام الحجوي مقارنة بين باريس ولندن وأدرك تفاصيل حياة المدنيتين. ومع أنه لا يرى فارقاً مهمًّا بينهما من حيث أصل المدنية إلا أنه احتفظ ببعض الملاحظات ذات الطابع التفصيلي. لقد حافظ الحجوي على موضوعيته في هذه المقارنة، وإن كانت ظروف الرحلتين إلى باريس وإلى لندن قد تركتا آثارهما على الوصف. ففي الأولى كان مبعوثاً رسميًّا في بعثة دبلوماسية. أما في الثانية فهو سائح تاجر، واجه من مشاكل وأثقال البيروقراطية الإنجليزية ما جعله يشمئز منها اشمئزازاً. لكن مع ذلك هجا بقدر ما امتدح من عوائدها وأخلاقها كما تراءت له في يوميات الرحلة. فقد لفت انتباه رحّالتنا إلى إحدى مميزات لندن عن باريس، بما يوافق عوائد بلادنا الإسلامية حينما يقول: «ومما يلاحظ هنا في الفرق بين أخلاق الإنجليز والإفرنسيين أن هذا المركب فيه محل خصوصي لركوب النسوة، وهو أحسن محمل في المركب، لا يدخله الرجال أصلاً. وكذلك يوجد هذا في السكة الحديدية الإنجليزية، وهذا ما رأيناه قط عند الإفرنسيين، وإنما نسمع بوجوده عند العثمانيين، وما أحق هذه العادة أن تكون عند عامة المسلمين، برًّا وبحراً، لما عندهم من الحجاب والحشمة»[57]. الإنجليز في نظر الحجوي هم أكثر ميلاً للحياء والحشمة من الفرنساوية. فمن «المعلوم في أخلاق الإنجليز شدة الحشمة والوقار، وقلة التهتك في نسائهم ورجالهم باعتبار الغالب فيهم بخلاف غيرهم»[58].
كما يعيب على الإنجليز بيروقراطيتهم. متحسراً على الأيام التي ضاعت في «الذّهاب إلى محل البوليس وانتظار النوبة والجواب على الأسئلة والطبع على الورق ونحو هذا مما لا فائدة فيه لنا ولا لهم»[59]. وقد انزعج رحّالتنا أيما انزعاج من هذه البروقراطية والطريقة والطباع الإنجليزية التي رآها على خلاف مع طبائع الفرنسيين. فالبوليس الإنجليزي يبدو عبوساً وابتسامته تأتي بعد ذلك باردة، في حين أن الفرنساوية هم أرفق بالمسافرين وأبشر من الإنجليز. وربما تعجب أحدنا وهو يجد رحّالة مغربي مثل الحجوي ينتقد البيروقراطية الإنجليزية في ذلك الزمان من انحطاط مدنيتنا. لكن لا ننسى أن الأمر طبيعي، ما دامت رحلته إلى باريس هي ديبلوماسية، في حين أن الثانية هي سياحية عادية. ففي الأولى كان معفياً من الاحتكاك بمثل تلك الدوائر وفي غنى عن تدبير تلك الأوراق وحينئذ من المؤكد أن الفرنسوية فضلاً عن خبرتهم بالطبائع المغربية يومها أكثر من غيرهم من الديار الأوروبية الأخرى، كانوا أبشر من الإنجليز في استقبال الحجوي المبعوث الرسمي وليس التاجر الذي لا يعرفه الإنجليز. ومع ذلك لا بد من القول: إن الحجوي في مقارنته بين البلدين لم يقف فقط عند هذه النقطة، بل عدّد جوانب أخرى من الفوارق بينهما. ففي المجال الصناعي، نجده، وإن تحدث عن جمال ورقي الفن الفرنسي والعمارة الفرنسية يعترف بقوة الحركة والصناعة الإنجليزية. وعموماً فإنه أفرد فصلاً أو مطلباً من رحلته لذكر أنواع المفاضلة بين لندرة (لندن) وباريز مسّت وصف الهياكل والبنى التحتية وما شابه وكذا الأخلاق والعادات. فمثلاً تراءى له الإنجليز في التجارة صادقين. وعدم خداعهم في التجارة سبب لانتشار تجارتهم في العالم. ولا يفوت الحجوي التمييز بين صدقهم وعدم خداعهم في التجارة ومسألة الصدق في السياسة. لنقل بتعبير أكثر دقّة وحداثة: إنهم أكثر تشبتاً بالأخلاق المهنية في التجارة من غيرهم. لذا فإن الإنجليز «مشهورون في العالم بمعرفة طرق التجارة وأساليب الاستيراد والإصدار، وأعانهم على ذلك ما عليه تربيتهم من صدق المعاملة والقناعة بالربح القليل ليباع العدد الكثير. ويقولون: القليل في الكثير كثير، وهذه قاعدة مطردة ضرورية، فصدقهم في المعاملات الصدق التام الفائق في ذلك غيرهم هو الذي مهّد لهم الاستيلاء على معظم تجارة العالم، فالإنجليزي إذا سمّى لك الثمن فخذ أو اترك ولا تفاتحه في المهاودة، هذا خلق الكثير منهم أو الكل فيما سمعنا ممن طال مكثه بين ظهورهم الآماد الطويلة، مع صدق لهجتهم وعدم خداعهم في التجارة لا في السياسة، فحصلت للعالم بهم ثقة تامة أعانتهم على اتساع متاجرتهم مع أقطار العالم»[60].
يقول هذا رحّالة مغربي، يدرك ما يقوله. لأن الحجوي أيضاً هو رجل أعمال وتاجر. وله كتاب مخطوط في الخزانة الوطنية بالرباط يستعرض فيه جميع ممتلكاته. ليس طبعاً من باب أخلاقيات السياسي التاجر الذي يخشى أن يتهم تحت بند «من أين لك هذا»، بل هو ذكاء منه، لأن عادة السلطة المخزنية يومها وضع اليد على الكثير من ممتلكات رجالاتها. لقد كانت زيارته إلى لندن في الأصل زيارة تجارية. فهو لا يسلّم للإنجليز بالصدق في السياسة، لكنه يسلّم لهم بالصدق في الاقتصاد والتجارة. ويرى أن تلك قاعدة. ولعلها كانت مراكمة تجاربه التي أهّلته للعناية بالإصلاح الاقتصادي من خلال مشاريعه الإصلاحية في كتاباته ورسائله الكثيرة.
كذلك يعدّد من الفوارق بين مظاهر العمران الباريزي والإنجليزي ما يتصل بالخصوصيات الثقافية والعادات بين البلدين. فمن أخلاق الإنجليز مثلاً حب الرياضة البدنية وفاقوا فيها غيرهم. «نعم إن الفرنساوية اعتنوا بالأزهار فاستغنوا بالرياضة الفكرية عن البدنية وهي لا تغني»[61].
ولا ينسى أن يعقد مقارنة أخرى بين الإنجليز والفرنساوية وأيضاً المغاربة. وهذه المرّة في موضوع النظافة. إنه يرى أن المغاربة أنظف من الإنجليز. ومثاله على ذلك اعتماد المناديل والزيوف. فلا «تقل لي: إن المغاربة ليس لهم زيوف، إنا نجيبك بأن فقيرهم وحقيرهم له زيف واحد بعد الأكل، ولا بد عند المغاربة في غسل الأيدي بالصابون وتجفيفها في الزيف، وفي تلك نهاية النظافة وذلك مفقود عند غيرهم، لذلك جعلوا لكل آكل زيوفاً، أما الإنجليز فلا، نعم، في الأوطيلات العالية يعملون بعادة الإفرانسيس»[62].
وثمة أمر لفت انتباه رحّالتنا له صلة بالتعصب تجاه الآخر. وقد أرجع مسؤولية الاندهاش من المختلف إلى هذه النزعة. ما يؤكد أن في نصوص الرحّالة ما هو سابق لبيان معرّة التعصب الحائل دون التعارف. لقد تحدّث غير ما مرّة عن هذا الاندهاش المبالغ فيه من الاختلاف في عادات المأكل والملبس والمسلك في المسألة التي وجّهت له من قبل الجالية المغربية المقيمة بتلك الديار. «فما أشد تعصبهم، وما أحسن تسامح المسلمين الذين لا يعيبون على الغريب شيئاً»[63]. ومن هنا رأى الأمثل في أن يلبس المسلم لباس القوم لما يكون في بلادهم. ليس فقط لتجاوز الحرج، بل من أجل المصلحة وعدم فوتها وتجنب الخداع. هنا الحجوي البراغماتي الواقعي الذي يكيّف فتواه كفقيه بالمصلحة. ويشرح هذا الموقف من خلال جوابه عن السائل:
«إلا أنه لما وقف إزاءنا أول كلامه نظر إلى لباسنا المغربي قال: هل أنتم يهود، فقلنا، نعوذ بالله، بل مسلمون، فقال: سامحوني، التبس عليَّ الأمر، بهذا اللباس غير المنتظم الذي فيه بعض زيادات على البدن لا فائدة فيها، فقلت في نفسي: لهذا أفتى الشيخ محمد عبده بلبس البرنيطة في بلد الكفر، وكل من يلبس اللباس المخالف للزي الأوروبي في أوروبا فإنما يتعرض لمثل هذه الأسئلة ولضياع دريهماته (…) فإن كان تاجراً فذلك الخسران المبين في تجارته، ولا تظهر ثمرة دينية للبقاء في بلدهم بزي غير زيهم إلا إشهار الإنسان نفسه وجعل عرضه هدفاً للضحك والمسخرة والإهانة. فلباسهم كسلاح يدافع به المتلاعبون بدراهم الغرباء (…) ولا يتخلص الغريب منهم إلا بلباسهم ولسانهم. فإن كنت في بلدهم فالبس لباسهم وتعلّم لسانهم تأمن مكرهم»[64].

إذن، نحن في الرحلة الأوروبية أمام وصف يحاول أن يحافظ على موضوعيته. يوازن بين ذكر المحاسن والمثالب.. لكنه يحتفظ بالحسرة على تخلف المجال. بل أكثر من ذلك، يرى أن المدنية تقوم بالعلم والصبر والكدح وينتقد العقل الكسول ونزعة الملل. فالعقل الملول لن يتقدم ولن ينتج شيئاً. وقد استعرض حكايته مع رفاقه حينما كان بزيارة لإحدى المكتبات:
«ثم إن رفقائي ملوا كثيراً وضجروا من كثرة ما رأوه وأرادوا الخروج، فقلت لهم: ألستم طلبتم رؤية الكتب الخطية فنحن ننتظر وصول المكلف بها؛ عجباً لكم! ما حصل ملل لمن ألّف، أو كتب، أو طبع أو سفر أو ادخر أو بنى أو رصف أو جنس ولا لمن يرينا ويطلعنا! فلا أمل في ارتقاء من به داء الملل، فاطلل آفتنا العظمى وسبب من أسباب تأخرنا وتقدم غيرنا – إنا إذاً لمن العاجزين. ولو كنتم في ملهى ما مللتم»[65].

يتبع

https://anbaaexpress.ma/v1yi9

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى