الجيوسياسة” و”الجغرافيا السياسية” مفهومان متمايزان وفي ذات الوقت متداخلان، وكلاهما يحيل على تفاعل الجغرافيا مع النشاط السياسي. وإذا كان مفهوم الجغرافيا السياسية يتشكل من الموصوف وصفته، يحمل معنى الجغرافيا في مظهرها السياسي، فإن الجيوسياسة (géopolitique) مفهوم مركّب يحيل على ما هو جغرافي وسياسي في ذات الوقت
الجيوسياسة (géopolitique)، في بعض تعاريفها، هي جزء من الجغرافيا السياسية (géographie politique)، من حيث أن الأيديولوجيات ذات الصلة بالمجال الترابي تتفاعل سياسيا مع هذا الأخير وفق شروطه الجغرافية، كما أن تلك الأيديولوجيات تتفاعل مع المجال الترابي جغرافيا وفق شروطه السياسية. وقد شكل ميلاد الدولة في عصرنا الحديث تحولا اكتسب معه الفضاء بعدًا جيوسياسيًا دائمًا، كان من آثاره ما نعيشه من تفاعل جدلي جيوسياسي بين الدولة وفضائها. ويمكن القول أن المقاربة الجيوسياسية هي دراسة السياسة الخارجية من أجل فهم وشرح وتوقع السلوك السياسي الأممي من خلال المتغيرات الجغرافية.
وفي ضوء ما تقدم، بدا أن السياسات المغاربية التي استلمت زمام دولها المستقلة لم تكن قد تحررت من تمثلاتها الجيوسياسية القديمة، ولم تنتبه أنها حازت على استقلالاتها وفق نسق جيوسياسي أممي أفرزه نظام عالمي جديد تؤطره فلسفة جديدة وقوانين ومؤسسات أممية جديدة. هذا التمثل السياسي في التعاطي مع الفضاء الجغرافي، كان وراء الصدامات والتعثرات وما ترتب عنها من إخفاقات السياسات المغاربية، وأنتجت بعد أن تقطّعت أنفاسها دولا فاشلة بكل المقاييس.
كان محمد لبجاوي أحد الشخصيات المغاربية التي وقفت ضد القرارات غير المتبصرة التي صدرت عن الرئيس الراحل هواري بومدين، ورافع من أجل السلام المغاربي، وفي غمار المأساة التي راح ضحيتها آلاف الجزائريين ذوي الأصول المغربية إثر قرار الترحيل التعسفي عام 1975، لم يقف موقف المتفرج بل قام بنشاط كثيف لتنبيه النخبة الجزائرية الحاكمة وللحد من أي تصعيد قد ينزلق بالبلدين إلى المواجهة المسلحة، وسجل موقفه المشرّف، وطيلة تلك الأشهر كتب مقالات ومراسلات وأعطى حوارات وتصريحات، أصدرها عام 1976 في كتاب تحت عنوان «باسم الجزائر: ضد الحرب بين الإخوة/ من أجل الإخاء المغاربي/ من أجل السلام في المغرب الكبير».
عندما قرأت أول مرة كتاب “باسم الجزائر” للمناضل والمؤرخ المغاربي محمد لبجاوي، اكتشفت صوتا آخر للجزائر؛ صوتا واثقا لا يعرف التلعثم، صوتا واعيا بأقواله ومقاصده، صوتا من الرعيل الذي فجر الثورة. مناضل ونقابي وشاعر ومؤرخ، كان عضوا بأول مجلس قومي للثورة الجزائرية وشغل رئيس فدرالية جبهة التحرير بفرنسا كما أسس أثناء الاستقلال عام 1962 ودادية الجزائريين المقيمين بفرنسا وأوروبا.
ومن خلال المعطيات المتوفرة، يبدو أن الراحل لم يكن يختلف عن النخبة المغاربية سواء تلك التي كانت في الحكم أو التي كانت في المعارضة، ورغم صدقه وتجربته، فقد كانت له نفس التمثلات السياسية التي عفا عنها الزمن. عارض الانقلاب العسكري الذي وقع في 19 يونيو 1965 والذي اعتبره غير شرعي وظل موالياً للرئيس السابق أحمد بن بلة. والسؤال هو كيف وقف مع بن بلا مع أن هذا الأخير جاء أيضا بطريقة غير شرعية بعد الانقلاب على الحكومة المؤقتة؟
وفي المغرب أعلن عن إنشاء «الحركة المسلحة للقوات الديمقراطية الجزائرية» في مارس 1976، وهذا يعني أنه لم يكن متشبعا بالنضال السلمي؛ وبالتالي لم يكن مستوعبا لروح العصر ولا للتحولات الجيوسياسية المترتبة عن النظام العالمي الجديد.
وعاد إلى المشهد السياسي بعد أكتوبر 1988، ورأس لجنة التحضير لعودة الرئيس السابق أحمد بن بلا إلى الجزائر، ثم استقال من جميع الأنشطة السياسية، واعتزل العمل السياسي كأغلب المعارضين من رفاق الرعيل الأول، وهو ما يترجم أن مؤسسي الحركة القومية المغاربية ومن اقتفى أثرهم، رغم صدقهم ونضالهم التحرري، لم يكونوا على بينة سياسية من أمرهم. لقد ظلوا في “وضعية” لم تمنحهم القدرة على الإبصار أبعد من أنفهم كما يقول المثل الشعبي. على أي حال لا جدوى بأن نلقي باللوم على أسلافنا ولا أن ننظر من منظارهم. من مصالي الحاج إلى علال الفاسي، ومن فرحات عباس إلى الحبيب بورقيبة إلى اليوسفي وآيت أحمد وقادة الدول وساسة ومفكرين لا مناص من أن نضع إرثهم تحت مجهر الفحص والنقد، حتى نبني “وضعية” تسمح لنا برؤية “أفق” أوسع وأن نرى أبعد من أنفنا.
لقد أخفقت النخب المغاربية في الأقطار الخمسة في بناء الاتحاد لسبب وجيه هو أنها فشلت في فهم روح الاستقلال وفشلت في تثقيف شعوبها على قيم العمل والتسامح والتواضع والسيادة، لقد دفعت تلك النخب شعوبها إلى أن تشعر دائما أنها ضحية: ضحية الاستعمار، وضحية المتآمرين وضحية الأقدار…
إن المسؤول عن فشل الاتحاد هذه النخب، ولن يتحقق الاتحاد إلا ببروز نخب جديدة لا تمثل دور الضحية، ولا تخاطب شعوبها كضحايا، بل تتصرف كنخب مسؤولة وناضجة وتخاطب شعوبها على أنها شعوب سيدة عليها أن تتحمل مسؤوليتها وتتحمل وزر إختياراتها.