حاوره عبدالحي كريط
شاعر وكاتب ومترجم مغربي مقيم في ألمانيا إلى جانب عمله كمهندس ومدير، يهتم بالكتابة الإبداعية، الفوتوفراغيا والترجمة.
يتقن كل من اللغة العربية، الألمانية، الإنجليزية والفرنسية.
رسالته من خلال أعماله الفنّية هي أن يكون العالم أجمل وفي سلام .
دخل جامعة ابن طفيل بالقنيطرة، وبعد عامين من دراسة الرياضيات والفيزياء هاجر إلى ألمانيا في أواسط التسعينيات.
درس علوم الطاقة والهندسة الكهربائية في الجامعة العليا للعلوم التطبيقية بمدينة كُولُونيا، ليتخرّج منها بعد حصوله على دبلوم مهندس كما نُشرت له الكثير من الترجمات، المقالات الأدبية والنصوص الشعرية والسردية على مواقع عربية مختلفة، ورقية وإلكترونية. ..
ضيفنا هو الشاعر والكاتب المغربي الألماني نورالدين الغطاس ليتحدث لنا عن عمله الإبداعي الجديد الملائكة تحب الليمون وهي عبارة عن مجموعة شعرية
تحتوي على نصوص مزيج من الشعر والنثر مرفقة بصور فوتوغرافية من التقاط الشاعر والفوتوغرافي نور الدين الغَطّاس، هذه النصوص المرئية، تجعل القارئ في حركة دائمة، يسافر كلمة وصورة ويتمنّى ألاّ ينتهي سفره .
وكما جاء في شهادة للكاتب، الشاعر والمترجم الفلسطيني الدكتور يوسف حنّا، جاء فيها: الملائكة تحب الليمون قلما رأينا مثيلاً له في المكتبة العربية. فمن ناحية البنية التشكيلية للنص والتي منحته تفرّداً وخصوصية، تجذب القارئ على الاقتراب منه واكتشاف ما يحمل من قيم دلاليّة تسهم في صياغة فكر المؤلّف وشعوره وما يرافقه من معانٍ تدور في فكر الوعي والإدراك، أي إدراك الإنسان لذاته وللعالم المحيط به، وتأتي مفردات الزمان والمكان لتكتمل مع هذه الثنائية، وبهذا يدشّن نافذة لرؤية وصياغة عالم الذات الفردي والعالم الخارجي ذي الصبغة الجمعية، وبلا أدنى شكّ، تطلّب هذا من المؤلّف بناءً فكرياً وشعورياً، دخلت في تكوينه تراكمات من الخبرات والعلاقات التفاعلية، ليقدّم لنا منجزاً أدبيّاً دليلاً عاكساً لوعي صاحبه.”
في هذا الحوار سيتحدث لنا الضيف عن أبرز لمحات عمله الفريد الملائكة تحب الليمون وغيرها من المحاور الهامة
أول شيء يجذب القارئ هو عنوان كتابك الملائكة تحب الليمون، ماهي الدلالات السيميائية والجمالية التي يحملها هذا العنوان؟
بدأت التفكير في العنوان عند الانتهاء من المجموعة الشعرية، بعدما أخذت النصوص والصور الفوتوغرافية موضعها الأخير، كنت أبحثُ عن الخط الرابط بين كل من النصوص والصور، وكلما أعدت قراءة النصوص والتمعن في الصور، وجدتني أقف من جديد عند النص “الملائكة تحبّ اللّيمون”، الذي جاء متأخراً إلى حد ما في فهرس المجموعة، كانت ترنّ بداخلي أصوات النصوص والصور الأخرى، تقول لي إننا نحبّ هذا النص، إنّه المُتكلم بصوتنا جميعاً، يمثلنا من الداخل والخارج، يمكنك التفاوض معه، حينها قرّرت أن يكون نص “الملائكة تحبّ اللّيمون” عنواناً للمجموعة. كتبت هذا النص متأثراً بوفاة والدتي المفاجئ، أتأمل حياتي، حيث يجبرني عملي كمهندس على السفر إلى العديد من الدول، حتى أصبحتُ أشبّه حياتي بالمقيم في حقيبة سفر مستطيلة الشكل، لكن فجأة وجدتني في عزلة منزلية إجبارية بسبب فيروس الكورونا، أنا الذي يهرب من التأمل بدعوى العمل والسفر، يجد نفسه أمام نفسه، أمام المرايا التي كان يخشاها، فقلت حسناً، لكل داء دواء، انعكفت على مراجعة ما كتبت، ترتيب أعمالي الفوتوغرافية، لكن موضوع غياب أمي شغلني أكثر، تنفست الصعداء، تذوقت مرارة الفراق، الرحيل والغياب الأبدي للأم، ربما يحاول العنوان الجمع بين العالمين، الهُنا والهُناك، الأرض (اللّيمون) والسماء (الملائكة)، هنا تكمن الدلالة السيميائية للعنوان، فمَتى دلّ الشيءُ على معنىً فقد أعرَبَ عن نفسِه وإن لم ينطقْ.
الكتاب رحلة تأملات بين عالمين عبر أجناس أدبية وفنية متعددة، رسالتي تمت من خلال مزجي الكلمة بالصورة، وقد وصلت إلى القراء حسب كثير من ردود الفعل الإيجابية والمشجّعة، كما كتبت عنها الشاعرة والفنّانة التشكيلة “عنفوان فؤاد”، على سبيل المثال: (جاءت نصوص الكتاب متباينة الحجم والشكل مزيج من الشعر، النثر، الومضة القصصية، الطلقات الشعرية على شكل شذرات، ولا ننسى شاعرية الصورة التي عملت على تأثيث المكان بحمولة نوسطالجية وسردية وصفية لجماليات الالتقاطة التي تم القبض فيها على اللحظة الهاربة من العين المنشغلة والمشتعلة بتفاصيل النظر).
من ناحية أخرى، أومن بأن العنوان مهم جداً في كل عمل أدبي وفنّي، حيث يمكن للكاتب أن يثير فضول القارئ ويقوم بدعوته للدخول إلى عالمه كي يكتشف ما وراء ذلك، وعندما ينتهي القارئ من القراءة ويغلق الكتاب، يتأمل العنوان من جديد، وهذا ما يضمن استمرارية العمل الفنّي، كما قالت شاعرتي الألمانية المفضلة ماشا كالكو (1907-1975) “سوف أصمتُ، لكن أغنيتي تستمر”.
ماعلاقة الصورة الفوتوغرافية والشعر في الملائكة تحب الليمون؟
نعيش في عالم استهلاكي وسريع، نهرول دون تركيز، لا وقت للوقت، مهما حاولنا التخلص من هذه الطاحونة التي تحصد الأخضر واليابس دون هوادة، وجدنا أنفسنا مرغمين على التأقلم إلى حد ما مع نمطية وسائل التواصل الاجتماعي، من هنا جاءت فكرة إدماج الفوتوفرافيا في هذا العمل، أحاول بذلك الإجابة عن سؤال: هل يمكن للصورة أن تحمل نفس الرسالة التي يتوخاها النص، أم ربما أكثر؟ لكن بسرعة ومباشرة؟
من هذا المنطلق، أعتبر الفوتوغرافيا كتابة بالضوء، قد تعبّر الصورة عمّا تعجز عنه آلاف الحروف والكلمات، الصور الفوتوغرافية في “الملائكة تحبّ اللّيمون” نصوص بصرية، أحياناً مستقلة بمعنى الكلمة، تأخذ مكانها على الصفحة كالنّص، أحيانا أخرى تقترب من النصوص، تحاورها لإكمال الفكرة، تُنبِّهنا إلى ما قبل الكلمات وما بعدها. في “الملائكة تحبّ اللّيمون” تأتي النصوص على شكل صور، وصور التقطتْ الكلام بطريقة ما، كلاهما يريد أن ينجلي ويترك المساحة للآخر، لكن سرعان ما تكتشف أن مصيرهما واحد، لا يمكن لأي منهما الاستغناء عن الآخر، تجعل القارئ في حركة دائمة، يسافر كلمة وصورة ويتمنّى ألاّ ينتهي سفره. الفوتوغرافيا بالنسبة لي جنس أدبي مستقل بذاته، أهتم به بنفس الشغف والحبّ الذي أكنه للقراءة، الكتابة والترجمة.
عند قراءتي لبعض من نصوص كتابك لامست فيها بعداً سيكولوجياً كونياً ما مدى صحة هذا التوصيف؟
التفكير هو مناجاة الروح والعقل. نعم، ثمة مخاطبة للروح والعقل في نصوصي، لا أكتب من أجل الكتابة كفعل فحسب، بل للتعرف على نفسي ومساءلتها أولاً، للغوص في الروح الإنسانية ثانياً، عندما يقف القارئ متأملاً أو يعيد القراءة، حينذاك يمكننا الكلام عن مغزى الكتابة، وَسوَسة المُتلقي، تحفيزه على طرح الأسئلة، ما أقوله هنا عن الكتابة ينطبق كذلك على الفوتوغرافيا التي تتحقق فقط عندما يقف المشاهد أكثر من ثانية عند صورة ما.
خلال عملية الكتابة لا أبالي بأي تصنيف كيفما كان، أدعو القارئ المهتم يكتشف أبعاداً لم تخطر على بالي، وهذه العملية مهمة جداً بالنسبة لي، حيث أكتشف فيما بعد مع القارئ عوالم جديدة تساعدني على تطوير عملية الكتابة بالنسبة لي. وفي شهادة للكاتب، الشاعر والمترجم الفلسطيني الدكتور “يوسف حنّا”، جاء فيها: (أتقدم للصديق نور الدين الغطاس بأسمى آيات التهاني والتبريكات لهذا المنجز الإبداعي الأدبي والفني الذي قلما رأينا مثيلاً له في المكتبة العربية. من ناحية البنية التشكيلية للنص والتي منحته تفرّداً وخصوصية، تجذب القارئ على الاقتراب منه واكتشاف ما يحمل من قيم دلاليّة تسهم في صياغة فكر المؤلّف وشعوره وما يرافقه من معانٍ تدور في فكر الوعي والإدراك، أي إدراك الإنسان لذاته وللعالم المحيط به، وتأتي مفردات الزمان والمكان لتكتمل مع هذه الثنائية، وبهذا يدشّن نافذة لرؤية وصياغة عالم الذات الفردي والعالم الخارجي ذي الصبغة الجمعية، وبلا أدنى شكّ، تطلّب هذا من المؤلّف بناءً فكرياً وشعورياً، دخلت في تكوينه تراكمات من الخبرات والعلاقات التفاعلية، ليقدّم لنا منجزاً أدبيّاً دليلاً عاكساً لوعي صاحبه)، أما المترجمة والناقدة الفذة “لودميلا نده” من سورية فقد كتبت ما يلي:
(لقد عِشتُ مع (الملائكة تحبّ الليمون) زمناً من دفءٍ ونقاء.. وسكنني وأنا أُطالعُ نصوصَه وصورَه ذلكَ الشّعور الشّفيفُ.. الغامض والمؤكَّد بالخلود.. الخلودُ الّذي يصنعه الأدَب ويحياه ويمنحُه).
في الأخير ما جدوى الكتابة؟ إن لم يكن الوصول إلى وجدان القارئ وعقله وتذكر اسم الكاتب، وهذا أسمى وأكبر ما يحلم به أي كاتب.
ماهي الأسباب التي جعلتك تبتعد عن النمطية الأدبية في تأليف هذا العمل الإبداعي؟ هل هناك أوجه شبه بينك وبين أسلوب الكاتب والصحافي الأورغوياني ادواردو غاليانو؟
مجال الطباعة والنشر في العالم العربي غارق في النمطية بدعوى البصمة البصرية لكل دار نشر، هذا من جانب التصميم والإخراج البصري للكتاب، أما من جانب المحتوى فهناك روتينية كبيرة في اقتناء المواضيع، لا وجود للمحرّر الأدبي، وبالتالي النتيجة هي غياب كبير للفن، الإبداع والجودة، بطبيعة الحال هناك استثناءات، لكنها تبقى قليلة، لذا ارتأينا أن يبتعد كتابنا “الملائكة تحبّ اللّيمون” عن كل نمطية في الشكل والمحتوى، تصميم الغلاف وداخل الكتاب جاء بعد دراسة عميقة لمفهوم “المينيماليزم” مع الشاعرة والفنّانة التشكيلية الجزائرية “عنفوان فؤاد” والفنّان السوري الألماني “حسن الملا”، آمنا بفكرة “القليل كثير” في كل شيء، التصميم، اختيار الألوان والخط، ترتيب النصوص والصور، أما التحرير، المراجعة، والتدقيق اللغوي فقط أنجز على مرحلتين، الأولى من طرف الشاعرة والفنّانة “عنفوان فؤاد”، والثانية من طرف الشاعر والمترجم الفلسطيني الدكتور “يوسف حنّا”، حرصاً منّا على الجودة وأن يخرج العمل على أكمل وأجمل وجه.
من التحديات أو الصعاب التي أفزعت الناشر العربي، الجمع بين نصوص وفوتوغرافيا في كتاب واحد، بعدها تباين الأجناس الأدبية التي شكّلت محتوى الكتاب. عندما كتبتُ على الغلاف “نصوص وفوتوغرافيا” كوصف للمحتوى، كان تساؤل كل ناشر، حول معنى نصوص؟ ولم لا يوجد تجنيس أدبي؟ فكان جوابي دائماً، أنها عبارة عن نصوص تدخل في سياق الكتابة الإبداعية، لا تقتضي التصنيف الواحد. للأسف، الذائقة الفنيّة للناشر العربي تبدو شحيحة ومحدودة إلى حد كبير، ولا أعرف إن كان اﻷمر يعود ذلك إليه أم إلى القارئ العربي؟ فمن الملاحظ أن كلاهما يشير بالإصبع إلى الآخر.
الناشر يلهث وراء الربح السريع، غالباً ودون اهتمام بالقيمة الفنّية للعمل، والقارئ الذي لا يجعل الكتاب ضمن أولوياته. في الأخير استقر بي اﻷمر لطباعة ونشر الكتاب في ألمانيا، كما أردنا له أن يكون.
أما بخصوص مقاربتك ومقارنتك لي أستاذ “كريط” بأسلوب الكاتب الأورغوياني ادواردو غاليانو، فهذا شرف لي، لكن يؤسفني أن أعلمك أنني لم أقرأ له ما يكفي، ولست مطلعا على كل نتاجه. لقد رجعت بي الذاكرة إلى الحملة الصحفية حول كتبه، هنا بألمانيا عام 2009، عندما أهدى الرئيس الفنزويلي “هوغو شافيز” نظيره الأمريكي “باراك أوباما” كتابًا من تأليف إدواردو غاليانو، أتقاسم مع ادواردو غاليانو الكثير مما كتب عن علاقة الشمال بالجنوب، التي تتسم بالاستغلال والهيمنة، كما أشاركه لوعة الاغتراب، وحبّ اللاعب الأسطورة “دييغو مارادونا”، سلام على روحيهما.
بالمناسبة، كنت قد اقتنيت آخر كتبه قبل رحيله عام 2015، في طبعته الألمانية، كتابه الموسوم بـ “أطفال النهار”، أعدك بقراءته في الأيام القادمة.
لاحظت أيضاً أن بعضاً من نصوصك الشعرية والنثرية تحمل عبقاً صوفياً، هل الملائكة تحب الليمون تعتبر أيضاً صورة للأدب الصوفي؟
سؤال مهم، ولستَ الوحيد الذي توصل إلى هذا الاستنتاج العميق بعد الغوص فيما أكتب، بالأحرى الاستماع إلى الأصوات التي تثل إلى أذن القارئ بعد انتهاء عملية القراءة. بكل صراحة لم أقرأ الأعمال الصوفية العربية عندما كنت أعيش بالمغرب، بعد هجرتي إلى ألمانيا، تعرّفت على المستشرقة الألمانية الكبيرة “آنا ماري شِيمل” (١٩٢٢-٢٠٠٣)، قرأت كتبها ومقالاتها، كما تتبعت بعض محاضراتها في مدينة بون، التي كانت عاصمة ألمانية آنذاك، خصوصاً ترجماتها لمولانا “جلال الدين الرومي” والشاعر الباكستاني “محمد اقبال”، كانت ملمّة بدرجة كبيرة بالعالم الإسلامي، على وجه الخصوص الصوفية والشعر العربي. كانت تتكلم أكثر من عشر لغات، من بينها اللغة العربية، لا أنسى، لحدّ الآن، الترجمة التي اختتمت بها إحدى محاضراتها حول “محمد اقبال”، حيث يقول هذا الأخير: “الشاعر هو القلب النابض في صدر المجتمع”، توفيت البروفيسور شِيمل في 26 يناير 2003 في مدينة بون عن عمر يناهز الثمانين عامًا. قبل وفاتها بفترة وجيزة قالت لبعض الأصدقاء: “لقد كنت أشعر بالفضول بشأن الحياة الآخرة منذ شبابي، دعوني أذهب”.
لقد أعربت خلال حياتها عن رغبتها فيما يتعلق بتشييعها لحظة وفاتها، وعليه، طلبت أن يتم عزف مقطوعة “الموت والفتاة” للموسيقار “فرنتس شوبيرت”، وتلاوة الفاتحة الإسلامية، وتزيين قبرها بزهرتها المفضلة، الوردة البيضاء.
علّمتني “آنا ماري شِيمل” حبّ الترجمة واكتشاف الصوفية الإسلامية العربية.
من المؤكد أنه لا يمكنني نفي حقيقة أن “الملائكة تحبّ اللّيمون” هي إلى حد ما، انعكاس لكل ما أثر في شخصيتي وتكويني الثقافي من قريب أو بعيد، وأن المستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل وأعمالها الفلسفية وترجماتها لعبت دوراً كبيراً في ذلك.
نجد في “الملائكة تحبّ اللّيمون” ومضات وشذرات، أسميها التقاط للحظات، للأحاسيس، لحالات مختلفة للنفس البشرية، إيماناً مني أن كل ما يدعونا للتأمل والتفكير قد يكون صوفياً، يناجي الروح.
كنت قد كتبت:
النّملة
لا تطأ النّملة احتراماً لصانعها، فمهما علا تقدمك لن
تستطيع يوماً ما، صنع نملة واحدة، يا ابن آدم!
باعتبارك من المبدعين المغتربين كيف ترى واقع أدب المهجر؟ وما مدى حضور الأدب المغربي في بلاد المهجر؟
صديقي عبد الحي، في زمن العولمة يصعب الكلام عن المهجر أو ما يسمى بأدب المهجر، تعريف “الاغتراب” أو “المُغترب” أصبح مخالفاً لما كنا نعرفه من قبل، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح الشعور بالبعد غير موجود، والوطن يشبه حفنة التراب، نأخذها معنا حيث ذهبنا، يمكننا غرس الجذور فيها متى شئنا، هذا إذا كان تعريفنا للوطن مرتبطاً بالمكان.
في نظري أصبح هذا التعريف ضيقاً ومتجاوزاً. كم عدد الغرباء وهم في أوطانهم، أو ما يسمى بالاغتراب الداخلي؟ سئلتُ يوماً من طرف إحدى المجالات المحلية الألمانية: ما هو الوطن؟ أتذكر أن جوابي لتلك الصحفية كان مغايراً لتوقعاتها، قلت لها: أولاً، الوطن متحرك وليس ثابت، ثانياً، الجذور تحتاج لأن نأخذها معنا ونغرسها حيثما حللنا، ثالثاً، الوطن بالنسبة لي شاي بالنعناع في الصباح مع خبز ألماني داكن، وجبن هولندي “گاودا”. طالت الدردشة مع الصحفية الألمانية لنستنتج سوّياً أن “الوطن هو عندما نتشارك نفس القيم مع أشخاص آخرين”، رغم ذلك يبقى لكل واحد منا تعريفه الخاص للوطن، ربما مكان ما، شعور معين، موقف، لمسة، قبلة، أغنية، فريق كرة قدم، ذكريات… للأسف الشديد، باسم الأوطان اقترفت أبشع الجرائم والحروب في تاريخ البشرية.
أما حضور الأدب المغربي بشكل خاص والمغاربي بشكل عام فهو ضئيل جداً هنا بألمانيا، حيث توجد أقليات أخرى أكثر نشاطاً مثل: الأتراك، اليابانيين، اليونانيين وحديثاً أهل الشام، سورية، بعد الهجرة الجماعية وفتح الحدود الألمانية عام 2015، حتى في مجال الترجمة من العربية إلى الألمانية، يمكننا القول أن مساهمة شمال إفريقيا تكاد تكون منعدمة، أغلب المترجمين الألمان تكوّنوا في المشرق والشام، مثل “لاريسا بِندر” (متزوجة من سوري)، “غينتر أورث” (متزوج من سورية)، “شتيفان ڤايدنر”، “هارتموت فاندريش”، “ساندرا هتزل” (والدها مغربي)، وبالطبع تتم الترجمة من هناك لأن اهتماماتهم وعلاقاتهم قويّة مع دول المشرق. أما العرب من المترجمين المقيمين في ألمانيا، فأغلبهم من الشرق الأوسط وخصوصاً مصر، يقتصرون فقط على الترجمة من الألمانية إلى العربية، ولا يتجرؤون على الترجمة من العربية إلى الألمانية بدعوى الاختصاص، لكني هنا أتساءل: المترجم العربي الذي يقيم في بلد أوروبي، مثل ألمانيا، لمدة طويلة من الزمن، بين عشرين إلى ثلاثين سنة ويظل يترجم فقط من اللغة اﻷلمانية إلى اللغة العربية، ولا يترجم إلى اللغة المحلية، أي الألمانية، وكأنه يعيش في برج ايفل! إذن، لا بد من مبادرة مكثفة انطلاقاً من الشمال الإفريقي، سواء مدعمة أو غير مدعمة، للاعتناء بالأدب المغاربي في ألمانيا، مبادرة تكوّن من خلالها أطر ومترجمين للاهتمام بهذا الأدب، وإلا سيبقى الاهتمام بأدب الشمال الإفريقي فقط بواسطة لغة وسيطة، وهنا أشير بالتحديد إلى اللغة الفرنسية.
كيف استطعتم التوفيق بين عملك كمهندس وكمدير لشركة عالمية كبرى بألمانيا وكأديب؟
سؤال منطقي، بصراحة، ليس لدي وقت بما يكفي للكتابة والأدب والفن، إلى جانب التزاماتي العائلية. يأخذ مني عملي كمهندس ومدير لشركة ألمانية عالمية الكثير من الوقت والجهد، خاصة وأن السفر جزء مهم من عملي. لكن، رغم كل ذلك، اكتشفت، في زمن الحجر بسبب وباء الكورونا، أن بداخلي إنسان آخر ينتظر محاورتي، فرحبت به، هذا الشخص الذي يحبّ الأدب، الفن والثقافة، يقول للمهندس ورجل الأعمال والمدير أن هناك أمور أخرى تستحق العناية والاهتمام عليك الالتفات إليها. وجدتني أراجع أوراقي التي كتبتها من قبل، أرتب أعمالي الفوتوغرافية، بعدها قررت النشر والتعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي على أوسع نطاق، من أجل الثقافة، الفن، الأدب، والترجمة بشكل خاص من وإلى اللغتين العربية والألمانية، إيماناً مني بأننا في حاجة ماسة إلى التعايش والسلام، اليوم قبل الغد.
من جانب آخر، ربما له تفسيره البراغماتي، كل من الأدب، الترجمة والفوتوغرافيا يمنحوني التوازن اللازم لمزاولة حياتي، بعد قضاء يوم عمل مشحون بالهندسة، تسيير المشاريع، الاجتماعات، واتخاذ القرارات.
القراءة والكتابة بأربع لغات، عربي، ألماني، إنجليزي، وفرنسي، نعمة عالية من السماء.
مشاريعك الأدبية القادمة؟
هناك الكثير من المشاريع، إلا أن عدوي اللدود كان وسيبقى الوقت. أعمل على ترجمات مكثفة من الألماني إلى العربي والعكس أيضاً، كما أنني بصدد وضع اللمسات الأخيرة على ديوان جديد، وكذا عمل روائي لاحق. أما النسخة الألمانية لـ “الملائكة تحبّ اللّيمون” فهي تحت المراجعة والتحرير.
أيضاً سيكون هناك عمل فوتوغرافي جديد عمّا قريب إن شاء الله.
رغم كثرة المشاريع فلا أشعر بأي ضغط لإخراج هذه الأعمال إلى النور في أسرع وقت، بقدر ما كانت وستبقى الكتابة، الترجمة، والفوتوغرافيا من قبيل الهوايات الشخصية، الدافع الأول والأخير هو المتعة والجودة ومشاركة المتلقي كل ذلك. أعرف أنني من المحظوظين في هذا الشأن.
كلمة أخيرة؟
أن تبقى الكتابة حرّة ويقظة، بعيدة عن أي امتصاص لطاقاتها ومحتواها مهما كان مصدره، خاصةً المؤسسات الرسمية. الكتابة، الفن، والإبداع هي أملي الوحيد للتعرف على إنسان جديد ومستقبل أفضل لعالمنا العربي، نحن في حاجة ماسة إلى مجتمع مدني فعّال بمعنى الكلمة، له كل المؤهلات والوسائل الضرورية للعناية بالكتابة، الفن، والإبداع، من أجل بناء إنسان الغد، حر ومنفتح على ذاته والآخرين، قليل التقوقع على محوره اللغوي والثقافي، يناشد قيم إنسانية كونية. التشجيع المؤسساتي مهم، لكن دون السيطرة على بيوت الشعر، القصة، الرواية، الكتاب والترجمة والمراكز الفنيّة والإبداعية بصفة عامة، القليل من الجوائز الحكومية، في مقابل المزيد من العناية بالناشئة، والتركيز على قطاعي الصحة والتعليم.
ولا يفوتني أن أشكرك أستاذي الفاضل عبد الحي كريط على فتح هذه النافذة الحوارية التي تختصر المسافات، بشقيها، الجغرافية والفكرية.
مثل هذه اللقاءات نتمنى رؤيتها في برامج تلفزية عوض الخمج الذي يسوق في التلفزة الوطنية أسئلة الحوار واجوبة الضيفذ ذا مستوى عالي وراقي
هل الكتاب يوجد في المغرب ؟؟؟
عزيزتي حسناء،
أولا، أود أن أشكرك على تعليقك المفيد، بالفعل، كان حواراً ممتعاً مع الأستاذ عبدالحي. للأسف، الكتاب غير متوفر في المغرب، ليس هناك دار نشر مغربية جريئة للقيام بذلك، بل دعيني أقول عربية، يمكن الحصول على الملائكة من ألمانيا، أو انتظار النسخة الثانية التي ستصل إلى دول عربية عديدة عما قريب، للمزيد من المعلومات يمكنكم الاتصال بي عبر الفيسبوك والانستغرام، تحيات ألمانيا، نورالدين الغطاس