كان على المراقبين المطلعين ان يتكهنوا أن الدول/الأمم، راسخة في الأرض، تكتسب واقعا يتفوق على جميع الأحلام بفدرالية أو حتى بوحدة مغاربية. وبدت الدول/الأمم في أفريقيا الشمالية تتضامن أكثر، وما أشد هذا التناقض، لتتصارع لا لتواصل نضالها من أجل الاستقلال (…) إن المغرب الكبير حتى يحتمي من لهب الشمس الحارق لا مخرج لديه سوى استظلال يديه، فلْيجمَعْهما، من نواكشوط إلى طرابلس الغرب (المغرب الكبير في ظل يديه/ ميشال جوبير).
ميشيل جوبير (Michel Joubert) أحد أبرز الساسة الفرنسيين، شغل عدة مناصب من ضمنها وزير الخارجية في السبعينيات، وكان إبن مدينة مكناس العدو الأول للدبلوماسية الأميركية التي كان ينعتها علناً بالتهور في الإنحياز الأعمى لإسرائيل.
لقد ظل وفيّا للمغرب الكبير إلى أن مات وفي نفسه حلم لم يتحقق. ويبدو أن الراحل لم يكن ملمّا بالتعقيدات الجيوسياسية التي أنتجتها سيرورة من التحولات المنطقية التي ترتبت عن مخرجات الحرب العالمية الثانية، ولم يكن مدركا أن الصدق والشجاعة وحدهما لا يكفيان لتحقيق “إتحاد” يتعذر تحقيقه خارج روح النسق الأممي باعتبار أن هذا النسق الأممي هو من كان وراء إستقلال الأقطار المغاربية.
إن الريجيمات السياسية المغاربية التي تربعت على عرش الاستقلال بدا وكأنها خرجت فجأة إلى فضاء لم تكن تحلم أبدا أنها ستخرج إليه، فراحت تسابق الزمن في اتجاهات مجهولة، وإنطلقت مغمورة بفرح عارم متوهمة أنها تحررت من قيد الاحتلال، وبحماس ظل مثقلا بالخوف ومحمولا على تمثل قاصر للتاريخ ومفارق للواقع إنتهجت هذه الريجيمات العنف والتسلط أسلوبا لاحتكار الحكم، وقد تبين مبكرا أن الفاعلين الذين احتلوا مكانة أسطورية في مشاعر الشعوب ومخيالها لم يكونوا سوى متعطشين إلى السلطة، وأن الرغبة التي ظلت تحدوهم كانت تفتقر إلى روح الإبداع، و الحماس الذي رافق غمرات الاستقلال رافعا شعاراته البراقة انكفأ على نفسه، وطفت إلى السطح صراعات ترجمت ما كان يعتمل في العمق سواء على مستوى القطر الواحد أو على مستوى العلاقات البينية.
لم تتشبع النخب السياسية المغاربية بروح قوانين العصر، ولم تستوعب أن الوضع الجيوسياسي الذي ورثته غير قابل للتغيير بضربة نرد، وأن سر قوة الدولة يكمن في مهارة تدبيرها السياسي لقضايا شعبها وفق روح العصر وليس بالبحث عن لعب أدوار على حساب أهل الدار.
في غمار هذه الثقافة السياسية المتغطرسة نشأت دولنا المغاربية، ودون أن تبذل أي مجهود للتمرن على التواضع والحوار قررت تأسيس اتحادها الذي لم يصمد في أول أزمة، فانهار تحت وقع انفجار كما ينهار أي بناء هش.
لقد ضم الاتحاد خمسة أقطار، ومن غير الموضوعية أن نتهم المغرب أو الجزائر بإفشاله. وإذا افترضنا أن المغرب مسؤول عن فشل الاتحاد، فلماذا لم تحافظ عليه الأقطار الأربعة بعيدا عن المغرب حتى يعود إلى رشده؟ وإذا كانت الجزائر مسؤولة عن فشله، فلماذا لم تحافظ عليه الأقطار الأربعة بعيدا عن الجزائر حتى تعود إلى رشدها؟ وإذا كان المغرب والجزائر مسؤولين عن الفشل، فلماذا لم تحافظ عليه تونس، ليبيا وموريتانيا بعيدا عن المغرب والجزائر حتى يعودا إلى رشدهما؟
إن واقع الحال يثبت أن “الاتحاد” كان يحمل بذور تفككه في صلبه، ولعل الفضل في عدم تفككه وبقائه مجمدا يعود إلى النسق الجيوسياسي العالمي في شقه الأمني، وإلى الجامعة العربية،وسيبقى الاتحاد على حاله من الجمود إلى أجل غير مسمى، وقد تعود الروح إلى جسده، مثلما قد يتعرض إلى التفكيك، فكل شيء وارد وفقا للتطورات التي ستمس الوضع الجيوسياسي في شمال أفريقيا وبلدان الساحل والصحراء.
