كيف نظر مغاربة القرن التاسع عشر لمظاهر النهضة الأوروبية؟
الرحلة وثيقة تاريخية، وهي فضلا عن ذلك نافذة على الذوق والمزاج والثقافة المحلية، لا أتحدث هنا عما تحبل به الرحلة من أنواع الوصف للعمران البشري في ديار الاستقبال، فهذا مما تكفّلت به متون الرحلة نفسها، بل يهمّني ذوق الرحالة نفسه وكيفية نقل الصورة وهو يمنحنا صورة عنه أكثر مما يمنحنا صورة عن تلك الديار. اهتمامي بالرحلة لم يكن الغرض منه وصف مظاهر اليقظة والمدنية فحسب، بل كان الغرض منه وصف الرحالة وصولا إلى وصف ثقافته وبيئته وكيفية تلقي الحدث. فهي إذن وثيقة لمعرفة بيئة الإرسال أيضا، لا بيئة الاستقبال فقط.
وللرحلة في المغرب حكاية أخرى. بعضها سابق لرحلة رفاعة الطهطاوي وبعضها الآخر موازيا لها وبعضها متأخر عنها. لاحظت خلوّ كل من ألف من المشارقة في الرحلة لا سيما إلى أوروبا، من أي أثر للرحلة المغربية، بينما تكتظّ المكتبة المغربية بكتب ومخطوطات جليلة في هذا المجال. والرحلة والوصف قديمان في تاريخ المغرب. وقد سبق ابن بطوطة في تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ماركوبولو في الرحلة والوصف، كما سبق الشريف الإدريسي- وهو من خطّ أوّل خريطة للعالم – في نزهة المشتاق في اختراق الآفاق غيره في وصف البلدان، كما سبق صاحب الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا لأبي القاسم الزياني (بين سنة 1755م و 1792م) غيره في هذا الفن، كما صادف عصر النهضة إسم ابن الوزان المكنى بليون الأفريقي في وصف أفريقيا منذ القرن السادس عشر الميلادي، فالرحلة والمسح الجغرافي والوصف السوسيولوجي تقليد قديم في المغرب، ولا شيء يدهشنا حين نصادف وفرة في أدب الرحلة الحديث الذي كان مسكونا بصدمة الفارق الذي فاجأ المغرب الذي كان ينظر إلى الديار الأوربية ندا للنّد، وهو من أسقط الأمبراطورية البرتغالية في معركة وادي المخازن الشهيرة. وعلى هذا الأساس أحببت أن أقدم حينئذ أمثلة عن أنواع الرحلة السفارية والتجارية حيث تناولت تجربة الصفار وابن عثمان المكناسي والحجوي الخ. وتبقى هذه ثغرة فيمن أرّخ لتراث النهضة العربية ووقف عند خير الدين التونسي ولم يتقدم ليتعرّف على تجربة المغرب، ثغرة قد تبرر عند العوام لكنها لا تبرر علميّا بالنسبة لباحث متخصص، لا سيما ما يتعلّق بثغر عربي وإسلامي له علاقات تاريخية قديمة في مواجهة الغزوات الأوروبية.
المهام السفارية التي نهض بها المغرب ابتداء من أواخر القرن التاسع عشر، كانت مهام سفارية في إطار برنامج دولتي(Etatique). وما عدا مصر أيام محمد علي باشا والخديوي إسماعيل باشا، لم تكن هناك مهام سفارية سوى لدول قائمة مثل الدولة العلية بالأستانة، والدولة القاجارية بفارس، وسلطنة المغرب بفاس. لم تكن فاس مركزا لقبيلة أو تجمع بشري، بل كانت عاصمة تمثّل دولة، سواء بمعايير العصر الوسيط أو بالمعايير الحديثة لمفهوم الدولة الأمّة (état nation)، بل كانت عاصمة لها علاقات خاصّة ومستقلة مع دول وأمبراطوريات عظمى في أوروبا وأوراسيا تحتفظ حتى الآن بمراسلاتها في السجلات الديبلوماسية لتلك البلدان. كان المغرب مستقلاّ في قراراته، فهو غير آبه لأجندة الدولة العليّة، فلا هو متصرفية ولا هو إيالة. وسنقف على الخطاب الثقافي والسياسي لدى الرّحالة السفاري، لنستوعب الفروق. غوستاف لوبون، يتحدّث عن المغرب-مراكش بهذا المعنى الذي يفيد الاستقلال، يفيد إمبراطورية في حالة انكسار، عن دولة، وذلك حين يتحدث عن العبر التاريخية لدول مثل فرنسا والنمسا وإيطاليا، فيقول: “وقد علّمت حوادث مراكش الشعوب ماذا يكون مصيرها إذا لم تتحالف لتدافع عن نفسها”.
تناول عديد من المؤرخين تجارب الرحلة إلى أوروبا في منعطف صعب من تاريخ العرب والعالم الإسلامي، وبعض من تلك الرحلات اختارت لها أفقا من داخل العالم الإسلامي، كالرحلة الحجازية أو التركية أو الشّامية. وقلّما عُنيّ المؤرّخ المشرقي بالرحلة المغربية، ما عدا جانبا مما خلّدته رحلات ابن بطّوطة المغربي الطّنجي وكذا الشريف الإدريسي المغربي السُّبتي، وقلّما كان الاحتفاء بالحسن بن محمد الوزّان الزياتي الفاسي، صاحب وصف أفريقيا، والمعروف بليون الأفريقي، إلاّ عناية أدبية كما في واحدة من كلاسيكيات الأديب اللبناني أمين معلوف.
أما الرحلة الحديثة فقد ظهر أنّ أفق الاهتمام بها لم يتعدّ رحلة رفاعة الطهطاوي. فلا زالت معلومات عموم المشارقة عن تاريخ المغرب لا تتجاوز ما ألفه القدامى، لكنهم يجهلون مصادر التأريخ الحديث. وهذا قصور حال دون قراءة تاريخ المغربي قراءة ديناميكية من قبل الأجانب الذين إكتفوا بالنزر القليل من معلوماته التي يعود أغلبها إلى العصر الوسيط، أمّا هذا الأخير فقد جهلوا معظم محطّاته وأحيانا إكتفوا بكثير من أنواع الاختزال نظرا لأسباب عديدة، منها ما يفرضها الحاجز الجغرافي – وإن لم يكن هذا مبرر كافي – أو العزلة والانزواء في تقديم هذا التاريخ على طبق من البروباغاندا، لأنّ المغاربة صنعوا تاريخهم ولم يُكثروا حوله التمجيد والدّعاية في الخارج، ونظرا أيضا لحواجز أخرى ذات طابع جيوسياسي، حيث تكفّل باختزال تاريخ المغرب وسرديته آخرون، وجدوا في الاختزال امتدادا للسياسة والحرب، وهو خلل مضرّ بعلم تاريخ الأمم وتجاربها، وأيضا مضرّ بالسياسات نفسها، لأنّ الجهل بالتّاريخ له أثر وخيم على سائر المُعاملات؛ الاستهتار والعبث بتاريخ الأمم هو شكل من إعلان الحرب عليها. يواجه المؤرخ المغربي تحديين: إفتئات الغرب الكولونيالي، وتجاهل المشرق، وكلاهما: الافتئات والتجاهل، يؤدّيان الوظيفة نفسها.
والتركيز على خطورة الجهل والتجاهل هنا تفضحه الوثيقة نفسها، حيث أنّ الرّحالة المغاربة في العصر الحديث يفوقون عددا الرّحالة من سائر البلدان، كما تميزت بأنها مهام سفارية في أغلبها. بل ما يعنينا هنا، هو أنّ نصّ الرحلة هو وثيقة شاهدة على التّاريخ السياسي، من حيث ما إنطوت عليه تلك النّصوص من إشارات لعواصم دولها. ظهر هذا حتى قبل الرحلة الحديثة، كما كان يفعل الرحالة بن بطوطة وهو يصف البلدان ويقارنها بعمران المغرب على عهد بني مرين. فلقد كان ابن بطوطة مدينا لأبي الحسن المريني، وهو الذي دعا إلى تدوين رحلته وتحويلها إلى منشور رسمي للدولة المرينية المغربية أنذاك.
قبر الرحالة المغربي إبن بطوطة بطنجة
سنجد في رحلة ابن بطوطة إشادة بشموخ الدولة المرينية حتى وهو يصف البلدان كما قلنا، يكفي أن تجده يقول وهو يصف بعض المدارس في خرسان آنذاك، يقول في الجزء الثاني من رحلته:” ومدارس خراسان والعراق ودمشق وبغداد ومصر وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن، فكلها تقتصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله، المجاهد في سبيل الله، عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان وصل الله سعده ونصر جنده وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسه الله تعالى ، فإنها لا نظير لها سعة وإرتفاعا، ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه”.
ولا زالت تلك صناعة المغاربة بامتياز، وقد زيّنت الباب الرئيسي لبيت الحكمة ببغداد بالنقش على الجبص بالطريقة المغربية، وكنت قد ذكرت للأمين العام آنذاك لبيت الحكمة بأنّ ذلك القدر من النقش لا يمثل أرقى ما عند المغاربة، وحفزته إلى تجديده بما هو أمهر. وكانت خريطة الشريف الإدريسي السّبتي تؤثث بحجم مكبّر إحدى أروقة بيت الحكمة.
المدرسة البوعنانية بمكناس
المدرسة البوعنانية بفاس
المدرسة البوعنانية بسلا
وكان إبن بطوطة أشبه ما يكون برحالة يحتفظ بولائه لأبي عنان كما يحتفظ كريستوف كولومبوس بولائه لإيزابيلا. وكان يتناول خصومهم حتى من الدول المتعاقبة على الحكم في المغرب، كما فعل مع الموحدّين حين اتهمهم بالظلم، للواقعة التي يرويها في رحلته، أثناء مروره بالجزائر قادما من المغرب نحو المشرق، حيث سمع بقصة أحد المسافرين الذين توفوّا وتركوا ثلاثة ألاف دينار من الذّهب، أوصى بها رجلا ليسلمها إلى أحد ورثته بتونس، فلما علم والي بجاية بذلك انتزعها منه وصادرها، وهذا ما اعتبره ابن بطوطة يومئذ ظلما، أو بعبارته: “وهذا أول ما شاهدته من ظلم عمال الموحدين وولاتهم”. مثل هذا التحيّز وبغضّ النّظر عن حكم قيمة المحتوى، يؤشّر على أنّ هناك صراعا سياسيا كانت تتولّاه الدولة المرينية المغربية التي امتدت لتوحيد شمال أفريقيا حتى انتهت إلى تونس فأسقطت الدولة الحفصية، لكنها لم توفق بعد محاصرة أبي الحسن المريني بالقيروان عام 749ه، ونصبوا أبو عبد الله محمد بن تافرجين، الذين كان يعمل مع أبي الحسن، وهو أحد الموحدين. وكان ابن بطوطة من خلال حكاية قصة الوصية بالميراث، يريد القول بأنّ السلطان المريني كان عادلا وموحّدا للمغارب. وكانت الدولة المرينية كنظيراتها الموحدية دولة حرب وعمران، حيث خاضت معارك ضدّ أوربا كادت أن تكون حروبا دورية، يصف ذلك أحمد بن يحيى العمري في مسالك الأبصار بالقول:” بينهم وبين الإفرنج حروب ووقائع جمّة، في كل سنة، إلاّ أن يكون بينهم صلح إلى أمد وحروب سجال” . ما يؤكّد أنّ المرينيين كانوا معنيين بإدارة الحرب انطلاقا من الأندلس، التي باتت شأنا مغربيا خالصا يُدار من العاصمة فاس.
ويطنب ابن بطوطة في هذا الأمر، حيث يروي أنه أثناء مروره على تونس إتصل بالسلطان أبي الحسن المريني حيث سأله هذا الأخير عن أمر ابن تيفرجين، وستجد في هذا الوصف أنّ الرحالة ابن بطوطة كان أكثر من رحّالة، بل هو في نظري كان رجل استخبارات للدولة المرينية، قدّم الكثير من المعلومات الجغرافية والسياسية لأبي الحسن المريني، كما أنّ حكايته تعزز قدم الكيان “الدّولتي” المغربي بكل تقاليده وطقوسه المتوارثة تاريخيا، وليست مستعارة في العصر الحديث، فبقدر التعجّب والسخرية من مظاهر الموروث المغربي، نؤكّد على عراقته وكونه تاريخا موصولا وليس صناعة للاستعمار في أي عنوان من عناوين طقوسه، إنّ المغرب هنا يدفع ثمن عراقته، يقول ابن بطوطة: ” فدخلت المشور الكريم وقبلت يد مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، وأمرني بالقعود، فقعدت، وسألني عن الحجاز الشريف وسلطان مصر فأجبته، وسألني عن ابن تيفرجين فأخبرته بما فعلت المغاربة معه وأراتهم قتله بالإسكندرية، وما لقي من إذايتهم انتصارا منهم لمولانا أبي الحسن رضي الله عنه”.
ليس هذا موضوعنا، ولكنه إشارة مقتضبة لعلاقة الرحلة منذ القدم بالدّولة والسياسة. وسنجد أن الرحلة في العصر الحديث، ارتبطت بمهام سفارية للدولة، وبأنّ وثيقة الرحلة ومحتوى نصوصها يؤكّد على وجود دولة ذات سيادة وإرساليات ونفوذ خارجي، وهذا ما يظهر من نصوص الرحالة المغربي. لذا كان من الخطأ قراءة أدب الرحلة قراءة مفصولة عن سياقها. فلقد كانت الرحلات الأساسية في معظمها مهام مرتبطة بدول تسعى لتحديث هياكلها وجيشها النظامي، كما حصل في تركيا أواخر الدولة العثمانية، وإيران القاجارية، ومصر في عهد محمد علي باشا والخديوي والمغرب الأقصى.
( يتبع )