آراءثقافة

نحن من يخلق الأسلاف..مع عبد الفتاح كيليطو

أعادني عبد الفتاح كيليطو كاتب مغربي كبير لكنّه متواري خلف ظلال التّضليل المشهدي، تواري المثقف الحقيقي خلف فضاء مكتضّ بالمثقفين المزيفيين الذين ملؤوا الدّنيا ضجيجا وشغلوا النّاس بإنتاج التّفاهة؛ لقد أعادني إلى فكرة لطالما وجدت صعوبة في تبليغها، على طبق: هذا بيان للنّاس. يقول كيليطو بأنّنا نحن من يخلق أسلافنا، ومثاله على ذلك أنّنا نحن من خلق أبا العلاء المعري، حيث لم يكن لرسالة الغفران أهمية حتى أدركنا شبهها مع الكوميديا الإلهية لدانتي. هذه الحقيقة عبرت عنها منذ سنوات بالقراءة بأثر رجعي للتراث، أي محاكمة الماضي بأحكام الحاضر، ضرب من الإسقاط، كما عبرت عنها ذات عام تسعيني في مقالة معنونة: إنتاج التراث أم فهمه. وكانت تلك إشكالية تتعلق بالموقف الإشكالي من التراث: كيف نفهمه خارج سلطة الإسقاط، وكيف نفهمه خارج عملية إعادة الإنتاج، التي تجعل منه تراثا آخر، أكثر وفاء لحساسية الحاضر منه وفاء لحقيقته التاريخية. أضف إلى ذلك فكرة الحاضر كشاهد ومعيار ودليل على الماضي. إنّني أشعر بتوافق حقيقي مع هذه الرؤية. ألا يعني أحيانا أنّ سلفيتنا نحن من يخلقها، وكلّ بحسب ذائقته في إعادة الإنتاج؟

عبد الفتاح كيليطو من مواليد 1945 بالعاصمة الرباط، أطروحته السوربونية عام 1982 تدور حول السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني والحريري. حاضر كأستاذ زائر في السوربون والكوليج دو فرونس وجامعة بوردو وجامعتي برنستون وهارفارد… فضلا عن جامعة محمد الخامس للآداب والعلوم الإنسانية.

تُرجمت أعمال كيليطو إلى لغات عالمية، وله في الترجمة واللغة أقاصيص، يكفي كتابه: لن تتكلم لغتي وكتاب: أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية. وبها يرقى إلى فيلسوف لغة بامتياز. كيليطو الذي تجاهله العرب لأنهم لا يقرؤون كثيرا لمن شقّ طريقه خارج سُعار البراباغاندا، إلاّ لماما من قبل اختصاصيين أكثر في مجال الآداب والنقد، هو أعمق ناقد أدبي أنتجته الثقافة العربية، بل هو تائه في تخوم الثقافات، خبر غواية اللغة وأعاجيب الأدب، وهو صاحب الكتب المثيرة نظير : الأدب والغرابة، الأدب والارتياب، الكتابة والتناسخ.

تابعته منذ ثمانينيات القرن الماضي، يوم كانت مقالاته تملأ الملاحق الثقافية للصحافة المغربية، يوم كانت الملاحق الثقافية مدرسة متكاملة الأركان، يوم كانت الصحافة مرتعا للثقافة وليس للتّفاهة، في ملاحق كتب فيها الحبابي والعروي والجابري وكليطو والخطيبي وعبد الكريم غلاّب، وبنّيس، وجسُّوس، وعديد من نظرائهم. ولا يمكن أن يظهر نصّ لكيليطو لا يثير انتباهي، بل ثمّة طقس خاص في قراءة جيل أخلص للآداب إخلاصه للفكر، جيل: دفنّا الماضي و جيل الظّما، ورفقة السلاح والقمر…جيل تستشعر في قراءته قيمة الوفاء لآباء الثقافة التي تحققت معها الجودة والجدّية والجدوى.

إعادة الاعتبار لكيليطو موقف أخلاقي تجاه المثقف الذي يتعرّض للتجاهل وعدم الإكتراث، بسبب تواطؤ تفاهة المشهد مع إرادة التجاهل. وكذلك تنزّه المثقف وانشغاله في ورشته خارج الأضواء التي غالبا ما تنقل غثاء السّيل.

صحيح أن كيليطو ككل مثقف حقيقي لا يمكن تجاهله، لأنّه حاضر حتى في غيابه يزداد حضوره، فسلطة المثقف الحقيقي أقوى من غثاء السيل الذي ابتلي به العالم، فهو حاضر في ذاكرة الزمن الجميل للمثقف حين كان يملأ الفضاء بالمعنى ويتفاعل مع الصيرورة بقوة التفكير. هو يشتغل في صمت، وخارج الضوضاء، له حضور بكيفية أخرى، نحو من الحضور يربك أشكال الحضور الملتبس، لأنّ مشروعية حضوره هي عمق إنتاجه.

ثمة مشكلة تتعلق بالإنصاف، وهذا لا يزيد ولا ينقص من سلطة المثقف، بل يعزز أخلاقيات الفضاء الثقافي، حيث معيار نضجه بقدر ما يحمله من وفاء للثقافة وشغّيلتها.

https://anbaaexpress.ma/W6P3s

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى