توطئة:
إذْ أجد نفسي مضطرا لمُساءلة التاريخ ودغدغة الوثيقة من جديد، فذلك، لأنّني أحبذ رسم البدايات، لكي يصبح النّسيان – نسيان الماضي- هو خيار الأمم الجديرة بالمستقبل؛ في هذا الموقف تبدو الحاجة ماسّة إلى نيتشه الشّاب، وإن لم يكن بين شبابه وكهولته فارق جوهري في مناهضة ما من شأنه التعكير على صفو الحياة. هنا التّاريخ يتحوّل إلى مرض، لكن هل تساءلنا إذا كان هذا المرض ليس احتفاء بمجد قديم، بل تعويض جماعي عن تاريخ لا يوافق أحلام المُعاصرين؟ سيصبح لا محالة التّاريخ – بهذا المعنى- عدوّا للحياة، لأنّه سيساهم في الجمود. إنّه بالأحرى ذلك التعويض الذي يعزّز فعل الكذب على الحاضر، يحدث ذلك كلما فكرنا أن ننحت ذاكرة مغشوشة،ونكتب تاريخا بالتّمنّي لا بالوثيقة. الاستعمال المفرط للتاريخ يضر كما ذهب نيتشه بالإنسان الحي. أجدني مضطرا للخوض في هذا المرض، لأنّ هناك كمية من الغباء قد تدفع ببعض الأمم إلى التضحية بالحياة والمستقبل من أجل التّاريخ، هذا بينما العكس هو الصحيح.
يستنتج إيف لاكوست من خلال تقصّيه الحقائق في حرب فيتنام إلى وضع عمل غَيَّر مجرى الجغرافيا، حين قرر بأنّ الجغرافيا تصلح لصناعة الحرب، وأعتقد أنّ التاريخ أيضا يصلح لصناعة الحرب، وهذا سيكون واضحا أكثر بالنسبة للتاريخ الجغرافي. لا غرو أنّ لكل أمّة نصيبها من التّاريخ، وهذا تاريخنا نحن مسؤولون عن كتابته كما هو، نحن من يملك وثيقته، لأنّه تاريخ موصول، تمّ تدوينه في سائر المنعطفات، لم يكن التاريخ حالة استدراكية، فالتّاريخ الذي لا يدوّن في حينه، لا يُصار إلى تداركه إلاّ باعتماد أساليب فاشستية. لسنا في حاجة لاستعارة تاريخنا من أي أمّة من الأمم، لأنّ أحداث عظمى عرفها هذا الجزء من الجغرافيا، يشهد عليه كل حجر ومدر. ولأنّنا أمة تعرف حدودها، كما تعرف أنّ الافتئات على التّاريخ فعل غبيّ، لأنّ الوثيقة حينما تنطق ينتهي البُهتان: (قُتل الخرّاصون).
كان ولا زال تاريخ المغرب موصولا بجغرافيته، تلك العزلة الجغرافية التي لا زالت تحجب الأحداث الكبرى التي جرت داخل هذه الأمبراطورية القديمة، في مدّها وجزرها، حيث الوثيقة وليس إلاّ الوثيقة، قبل التأويل، هي من يحدد ماضي وحاضر ومستقبل مغرب معزول جغرافيا وتاريخيا وحتى سيكولوجيا. وأمّا حكاية العزلة فهي تحددها جباله وواحاته وفعل الذهاب والإياب في حركة انسياح مكوناته البشرية، حتى أنّ من يجهل تاريخ الأمم بالأحرى تاريخ المغرب، سيخلط لا محالة بين الدينامية القبلية والانقسامية والنزاعات السوسيو-سياسية وبين الوحدة الكبرى النّاظم للنسق الجغرافي من حيث هو نسق رمزي ودلالي. المغرب ككيان كان يشكل وحدة متينة تنطوي على دينامية بين مغارب – أو لنقل دفعا للالتباس- مرّاكشات(des marocs)- بالمعنى الخاص وليس المعنى العام، كما لفت إلى ذلك هنري تيراس- ما يعزز ميله القديم للجهوية. يتحدّث عبد الله العروي عن أنّ المغرب جزيرة، وهو يعني أنّها محاطة بمخاطر، وهذا كلام صحيح وعميق لكل من أدرك الخصائص الجغرافية للمغرب، لا سيما بعد أن بات في منطقة الاستهداف لأكثر من قوة استعمارية. هو كذلك، لأنّ العروي نفسه لم يفعل سوى أنّ عبّر عن تلك الحقيقة نفسها التي سنجدها ماثلة بقوة عند ابن خلدون: جزيرة المغرب، وتتكرّر عند هنري تيراس في تاريخ المغرب، عن المغرب المعزول(un Maroc isolé).
قبل البدء لا بدّ من تبديد الالتباس الجغرافي. يذهب البعض، لا سيما من يغريهم الإجمال لأسباب غير بريئة، بأنّ المغرب تاريخيا يشمل سائر ما يعرف اليوم بشمال أفريقيا. وهذا صحيح، إلاّ أنّه لا يحجب امتياز كل كيان عن الآخر بجملة من الخصائص، حتى إذا تعلّق الأمر بالمغرب الأقصى، كنّا أمام إقليم محاط بحدود طبيعية وغالبا ما كان منكفئا داخل تلك الحدود الطبيعية. يتعين أن نقرأ تاريخ الجغرافيا بشكل ديناميكي، أو بالأحرى الجغرافيا السياسية الكلاسيكية. كان المؤرخ التقليدي عاجزا عن تكوير الأقاليم البعيدة عن مركز الخلافة، وغالبا ما كان يستند إلى ما كتبه أسلافه، وغالبا ما يعتمد الإجمال كما نجد لدى اليعقوبي وابن حوقل. فالمغرب في نظرهما كان يشمل برقة ومصر، لكن عند ابن خلدون نقف على نصّ مهمّ، نستنتج منه أنّ الجغرافيا السياسية متحرّكة.
المؤرخون القدامى عرفوا المغرب مجملا ابتداء من مصر وبرقة حتى حدود المحيط غربا وبحر الروم شمالا وتخوم السودان جنوبا. ويعتبر ابن خلدون أن إقليم مصر وبرقة جزء منه عند المتقدمين، غير أنّه رأى أنّ “العرف الجاري في هذا العهد بين سكان الأقاليم، فلا يدخل فيه إقليم مصر ولا برقة”. الشاهد في هذه العبارة، أن ابن خلدون أشار إلى أنّ الجغرافيا السياسية غير ثابتة، وعليه، كان يتعين أن تؤخذ بعين الاعتبار حدود المغارب طبقا لتحول الجغرافيا السياسية. وأمّا الحديث عن حدود المغارب السابقة، فهي تتطلب الكثير من التّأمّل.
فصاحب الإستبصار وهو الجغرافي المراكشي، فهو يؤكد على أنّ “اصطلاح المغرب الأقصى أقدم من الأوسط وأن الثاني نسبة إلى الأول” إلاّ أنّه ذهب من رأوا أنّ حدّ المغرب الأقصى هو نهر ملوية. وهذا التباس يتطلّب وقفة خاصة ليس ها هنا مجال للتفصيل فيها، غير أنّ ادعاء صاحب الاستبصار بأنّ هذه الحدود من ترسيم العرب الفاتحين فيه مبالغة. فالفاتحين لم يدركوا الحدود، ولعل الأمر يعود إلى تاريخ قديم، كان المغارب فيه تحت التقسيم الإداري الروماني، فهو ليس ترسيما لحدود دول قائمة بل هو تقسيم إداري للرومان، أولئك الذين رسموا حدودا إدارية لموريتانيا الطنجية التي تبدأ من بحر الروم(المتوسط) شمالا حتى وليلي. ولم يستطع الرومان الهيمنة على سائر المغرب الأقصى، بل انحصر نفوذهم في الشمال تحت طائلة مقاومة شرسة من سكان المغرب من الأمازيغ. ولا زال الإلتباس قائما، حيث كثيرا ما يعتبر البعض أنّ مجيئ المولى إدريس أوّل مرة إلى المغرب، إنما أتى إلى طنجة ثم إلى وليلي، هذا بينما كانت طنجة طبقا للتقسيم الإداري الروماني تشمل وليلي نفسها، أي مشمولة في إقليم موريتانيا الطنجية. لعلّ المؤرخ الأبرز الذي وقع في هذا الإشتباه، هو المؤرخ المصري د. محمود إسماعيل. وسبق وأشرت إلى هذا الالتباس في مورد آخر، ولعل سبب الإلتباس هو أنّ طنجة المدينة اليوم كانت عنوان لشمال المغرب الذي كان يمتد إذاريا إلى جهة تازة وفاس وما شابه. يبقى من الأهمية بمكان التأكيد على ماذهب إليه صاحب الاستبصار، من أنّ “مراكش هذه آخر المدن الكبار بالمغرب المشهورة به وليس وراءها مدينة لها ذكر وفيها حضارة، إلا بليدات صغار بسوس الأقصى فمنها تارودنت وزجندر والكست ونول لمطة”. مما يؤكد أنّنا إزاء مدن وعواصم للمغرب وليست ممالك ودول، وهذا من بديهيات تاريخ مكتوب غير مستدرك عليه.
حدود المغرب معروفة، وهي محفوظة كالشعر عند ساكنته، ماكانوا في حاجة إلى ترسيمها، لأنّ الطبيعة تكفلت بذلك، وتوارثته الساكنة. يؤكد عبد الله العروي على هذه الحقيقة أيضا، حين ذهب إلى أنّ المغاربة منذ القرن15 كانوا يعرفون أين يقف المغرب، ين ينتهي وأين تبتدئ سلطنة أخرى. العروي يقصد هنا أنّ حدود المغرب ترسمت منذ العهد العثماني. وعليه، أمكننا القول بأنّ الجغرافيا السياسية الإقليمية عرفت تحوّلا كبيرا، وبأنّ النفوذ العثماني نسخ التقسيم التقليدي. فحيث انتهى نفوذ العثمانيين فثمّة المغرب. وإذا عدنا إلى العروي، فهو يستند إلى مخطوط لابن الحسن الحجوي يعود إلى 1911، أي قبل وصول الفرنسيين إلى فاس، وهناك يتحدث عن “سلسلة المناطق الضائعة”، وهو هناك يتجاوز نهر ملوية، ويتحدث بمقتضى حقائق الجغرافيا السياسية الجديدة للمغرب، وهي وثيقة يمكن الرجوع إليها في مورد آخر.
يتبع
هذه هي المواضيع التي يجب أن تثار في الإعلام العمومي لماذا لا يتحدث عنها احد!! فيصل العرايشي عطيها غير الشطيح والرديح ولالة عروسة واالحماضة ادريس هاني شكرا لك على التنوير وشكرا لهذا المنبر المحترم وكل القائمين عليه مواضيعكم ممتازة