الشأن الإسبانيسياسة
أخر الأخبار

مدريد.. تسكت “Vox” وتجدد موقفها: المغرب ليس تهديدا بل شريكا يصنع التوازن المتوسطي

يحاول اليمين المتطرف الإسباني صناعة "عدو افتراضي" للهروب من أزماته الداخلية، تمضي الدبلوماسية الإسبانية الرسمية في ترسيخ شراكة متوازنة مع المغرب، إدراكًا منها أن القرن الحادي والعشرين لا مكان فيه لمنطق الوصاية القديمة، وأن الأمن في الضفة الشمالية يبدأ من استقرار الضفة الجنوبية..

تبدو العلاقات المغربية الإسبانية اليوم وكأنها تعيش لحظة نضجٍ دبلوماسي غير مسبوق، رغم الضجيج الذي يحاول اليمين المتطرف في مدريد تصديره عبر شعارات “التهديد المغربي” و”الخطر الجنوبي”.

ففي جلسة لجنة الأمن القومي بالبرلمان الإسباني، أكد مدير ديوان رئاسة الحكومة، دييغو روبيو، أن العلاقات مع الرباط تمر بإحدى أفضل مراحلها التاريخية، مبنية على التعاون المتبادل في ملفات حساسة، من مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية إلى التجارة والأمن الطاقي، مشددًا على أن ما يُثار من “خلافات” لا يتجاوز النطاق الطبيعي بين الدول الجارة مثل فرنسا أو البرتغال.

ردّ الحكومة الإسبانية جاء حاسمًا ومحمّلًا بدلالات سياسية عميقة. فقد فنّد روبيو مزاعم حزب “Vox” اليميني المتطرف، الذي حاول كعادته أن يلبس السياسة الخارجية ثوب نظرية المؤامرة، زاعمًا أن المغرب يستخدم الهجرة كورقة ضغط على مدريد، وأن تحديث قواته المسلحة يشكل تهديدًا مباشرًا لإسبانيا.

إلا أن الرد الرسمي لم يترك مجالًا للتأويل، مؤكدًا أن ما يسميه “Vox” صراعًا خفيًا ليس سوى “وهم أيديولوجي”، وأن المغرب ليس عدوًا بل شريكًا استراتيجيًا في توازن المنطقة.

في العمق، ما يخشاه “Vox” ليس المغرب ذاته، بل تحوّل المغرب من جارٍ كان يُنظر إليه بعين التفوق الأوروبي، إلى قوة إقليمية صاعدة تفرض احترامها بمنطق الدولة المستقرة ذات الرؤية الاستراتيجية.

فالمغرب الذي أعاد تعريف علاقاته مع أوروبا على أساس الندية، لم يعد يقبل دور التابع أو الطرف الصامت في معادلة المتوسط. وبهذا المعنى، فإن الموقف الإسباني الرسمي لا يعبر فقط عن دبلوماسية التهدئة، بل عن إدراك جديد في مدريد بأن المستقبل لا يُصنع عبر الخوف من الجنوب، بل بالشراكة معه.

ولعل تأكيد الحكومة الإسبانية أن المغرب شريك في “قضايا حيوية” كالهجرة الدائرية ومحاربة الإرهاب والاتجار بالبشر، يعكس إدراكًا براغماتيًا بأن الرباط اليوم تشكل بوابة الاستقرار في الجنوب، وليست مصدر تهديد.

إن “Vox” في واقع الأمر يقاتل طواحين الهواء، محاولا استدعاء خطاب الخطر الخارجي في لحظة باتت فيها الحدود الأمنية والاقتصادية لإسبانيا أكثر ارتباطًا بالمغرب من أي وقت مضى.

أما في الجانب الاقتصادي، فإن الأرقام تتحدث بصمتها الفلسفي،  أكثر من 20 مليار دولار من المبادلات السنوية بين البلدين، أي شراكة تترجم بلغة المصالح لا بلغة العواطف.

منذ اعتراف إسبانيا بمقترح الحكم الذاتي المغربي كحل واقعي لقضية الصحراء، انتقلت العلاقات من منطق الحذر إلى منطق الثقة الاستراتيجية، في تحوّل يعكس انكسار الخطاب الكولونيالي القديم الذي كان يرى في الجنوب فضاءً للضبط لا للتعاون.

إن ما يحدث بين مدريد والرباط اليوم ليس مجرد تحسين في العلاقات، بل إعادة ترسيم لخرائط القوة في غرب المتوسط.

فبينما يحاول اليمين المتطرف الإسباني صناعة “عدو افتراضي” للهروب من أزماته الداخلية، تمضي الدبلوماسية الإسبانية الرسمية في ترسيخ شراكة متوازنة مع المغرب، إدراكًا منها أن القرن الحادي والعشرين لا مكان فيه لمنطق الوصاية القديمة، وأن الأمن في الضفة الشمالية يبدأ من استقرار الضفة الجنوبية.

الرسالة إذا واضحة، المغرب لم يعد مجرد جار، بل أصبح مرجعًا في هندسة الأمن الإقليمي، وإسبانيا، التي خبرت تحولات التاريخ، تدرك اليوم أن الواقعية السياسية تقتضي الانفتاح على الرباط لا الاصطدام بها.

وبينما يتحدث “Vox” بلغة الخوف، تتحدث الدولة الإسبانية بلغة المصالح والعقل. وهكذا يثبت الزمن مرة أخرى أن من يفهم الجغرافيا يفوز بالتاريخ.

https://anbaaexpress.ma/1yszn

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى