آراءثقافة
أخر الأخبار

في اليوم العالمي للفلسفة.. أين هي الفلسفة؟

إن اليوم العالمي للفلسفة يدعونا لإعادة اكتشاف الفلسفة في هذه الفوضى البيداغوجية العاجزة عن الشجاعة والإبداع. فقدت الفلسفة مناعتها ضدّ البلاهة، والتبسيط، والانتهازية. .

هذه المقالة تطوير للكلمة التي ألقيتها في الاحتفال باليوم المزبور الذي نظمه كل من المجمع الفلسفي العربي والجمعية الفلسفية المصرية. وهو مع ذلك سيبقى مختزلا نظرا لتراكم المسائل الفلسفية على امتداد مواجع الإنسان فوق كوكب يتجه نحو كارثة بيئية بكل مظاهرها الطبيعية والمعنوية.

منذ 2005، السنة التي ستعلن فيها اليونسكو الخميس الثالث من نوفمبر من كل عام، يوما عالميا للفلسفة، لم نتساءل وبجدية منذ ذلك العام: في أي مرحلة يا ترى من مراحل تطور الوعي تشتبك الأمم المتحضّرة اليوم؟ إنه درس هيغل الذي أعادنا إلى الوحدة والصيرورة لفعل العقل في التّاريخ، حين حرّر العقل من معناه الأرسطي والكانطي، ليجعله وعاء لتطور أشكال الوعي، وسفرا من الوعي في طوره الأدنى المبهم إلى العقل المطلق ووعي الذات بنفسها.

تلك هي المرحلة القصوى، الّطّور الفلسفي في تطور الوعي، يؤكد بأننا لم نبلغ بعد مرفأ الفلسفة والمنطق. باختصار، إننا هيغليا لم نقطع المسافة التاريخية وربما السيزيفية لصيرورة الوعي.

هذا المنظور الهيغلي يطرح تحديا حقيقيا يجعل الفلسفة طورا في صيرورة تاريخية وليس مجالا لاختصاص ينوء بميراث وصفي من تاريخ الأفكار،

نحسبها مذاهب شتّى وطرائق قددا، وليس تجلّيات مختلفة. إن الوعي يحفر طريقه بمكر التاريخ، ما يجعل مهمة الفلسفة كطريقة في التفكير، الطريقة الأضبط من حيث ميثاقها المنطقي المقولي، هي حاجة الوعي في مكابدة الصيرورة بكل عوائقها الموضوعية، وضمان لحضور أمثل فاعلية في جدل الوعي.

هذا المفهوم يضعنا على حافة خيبة الأمل متى ما نظرنا إلى الفلسفة برسم الوحدة والصيرورة الهيغلية للفكرة الكلية، كنهاية لتاريخ الوعي، النهاية التي اختزل فيها الهيغليون المزيفون الروح المطلق في طور جيوستراتيجي لعُوب، زادت الذات جهلا بذاتها.

وهذا ما يفسر تركيزي على الهيغلية اليوم، ليس باعتبارها نوبة في تاريخ الأفكار، بل بقدرتها على احتواء كل مراحل الوعي في صيرورة يمسك بتلابيبها العقل. ولأنّ الهيغلية وحدها تستطيع أن تدفع باتجاه التجاوز لقطائع التمعقلات الكانطية، فهنا لا يوجد العقل واللاعقل، بل توجد أطوار متمعقلة، يصبح العجز عن التجاوز هو الأزمة.

الدافع الأساسي هنا هو العمل على إنقاذ الهيغلية من صيرورتها الزائفة، حين انتهت لقمة سائغة بين يدي اليمين الإمبريالي، اختطاف الهيغلية من يدي كوجيف وحتى ليو ستراوس، ووضعها في يد دعاة النهاية، مع فوكوياما، حيث نهاية التاريخ هنا تأخذ بفكرة الصراع والاعتراف في علاقة السيد والعبد ولا شأن لها بنهاية وعي الذات بنفسها، أي الروح المطلق. هناك شيء يجب أن تنهض الفلسفة في سبيل استرجاعه، حيث تتعرض الهيغلية للاختطاف، وحيث بها تتمّ لعبة الصراع.

على هذا الأساس، نحن مطالبون اليوم بجعل الهيغلية تخضع لحركة تأصيل مختلف، وجعلها مفهمة أساسية لإعادة استيعاب تناقضات الواقع، وهو ما يجعل فهم التناقض مصدرا للتفاؤلية والتسامح وليس لصدام الحضارات. هيغل الذي جعل من النفي محفزا للتجاوز، للتركيب الخلاّق، لتكامل حقائق ومراحل الوعي فنّيا ودينيا وفلسفيا.

هنا لكل طور من ملحمة السير نحو الروح المطلق يحدث تجلّيا مختلفا للعقل. حوادث العالم كلها تبدو تجليات لمكر التّاريخ. هنا كل الملكات الإنسانية تتدافع في هذا الاشتباك.

هل حقّا إن الفلسفة كما تمثلتها اليونسكو حتى اعتبرت نفسها في قلب المشروع الفلسفي ، نظرا لاضطلاعها بمشروع السلام والتسامح وحقوق الانسان وحوار الحضارات، وهو ما يؤكد أن كل هذه المشاريع خرجت من جبة الفيلسوف، هل حقّا أنّ الفلسفة قادرة اليوم على أن توقف نزيف الحروب والاضطهاد؟هل تحررت الأمم ومؤسساتها، هل تحررت اليونسكو نفسها لتجعل التسامح والسلام في خدمة العدالة والعقل والتنوير خارج التقسيم الإمبريالي للوعي بالمصير؟

في هذا السير نحو الروح المطلق تواجه مسيرة الوعي هنات وعوائق نابعة من الفوضى الناتجة عن تصادم الملكات التي يستعملها العقل في لعبة التجاوز واستيعاب النقيض. إن الهيغلية بما أنها فلسفة تجاوزية كان لها شأن مع ما سبق وشأن مع ما لحق، تحتاج إلى وقفة عالمية تتدبر ما يبدو نقائض في تصورها للتاريخ والعالم، فهي ثورة باتجاه العبر-مناهجية من حيث نظرتها اللاّتبسيطية لدور العقل في التاريخ، اقترابها من حركة الجوهر وتشككه وتجلي حركته في الأعراض، ولأنها تمنحنا فهما لطبيعة الصراع الدائم بين السادة والعبيد على قاعدة المخاطرة والاعتراف، حيث الشيء المبتور في هذه السردية الفلسفية أنّ مكر التاريخ قد يحقق للعبيد مُكنة استيعادة السيطرة عبر الفعل والإبداع. وجب إعادة قراءة هيغل، وإنقاذه من نفسهومن الآخرين. يمكن قلبهذا الجدل مرة أخرى على رجليه وبكيفية أخرى، نظرا لشموليته وتعقيده.

إن اليوم العالمي للفلسفة يدعونا لإعادة اكتشاف الفلسفة في هذه الفوضى البيداغوجية العاجزة عن الشجاعة والإبداع. فقدت الفلسفة مناعتها ضدّ البلاهة، والتبسيط، والانتهازية.

وفي هذا اليوم العالمي للفلسفة، ماذا في وسع اليونسكو أن تقول في هذا التّلوّث البيئي بالمفاهيم المزيفة التي تجعل من الإبادة وجرائم الحرب، أحداثا غير قابلة للإدانة وتحتاج إلى الكثير من الروية لبناء الموقف؟ إن الفلسفة تدين عصرنا المتلاعب بكل شيء حتى بالفلسفة، حين استقلت السياسة عن الفلسفة، بل وحين باتت هي من يرسم لها معالم الطريق، أصبحنا أمام نموذج للفيلسوف ابن هواجسه الصفراوية، نموذج للفيلسوف المزيف: سفيه الفلاسفة وفيلسوف السفهاء.

https://anbaaexpress.ma/0r5q2

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى