الصراعات الدموية والشرسة: صورة أخرى من التوحش
لازلت أتلقى العديد من الرسائل من مختلف الاتجاهات الفكرية للقراء بين ساخط فقد التحكم في تصرفاته وأقواله، وبين مازح وناصح أن لا عودة للعالم العربي لأن وفق تعبيره:” بالمنطقة لا يتحملون هذا النوع من النقد الواضح” فيما البعض من القراء يرى أنني أزحت ستار مسرح النقد مما يجعل الجمهور يرى النص رؤية لا يتسع لها مجال التأويل.
ثمة ما ينبغي أن يُدركه القارئ العربي أن الكتابة كممارسة صورة من صور التعري التي لا يجب أن نخجل منها لأن بها تتجلى إنسانية الإنسان، وأي مصادرة أو تغطية لها هي تعكس حالة قمع سواء كانت ذاتية أم خارجية نتيجة لوضع اجتماعي تداخلات فيه عوامل عديدة، جعلت من التعبير عن الاعتقادات أو مهما كانت مسماها و دوافع تشكلها بمثابة جريمة لا يُمكن للمجتمع وإلى أي جهة كانت أن تغفر إلى من يُمارس إنسانيته وكشفها وبالطبع نتحدث هنا عن الأفكار التي لا تدفع إلى القتل والعنف لمجرد التعبير عن أفكار وإن كانت بمستوى قذارة مجاري المياه التي تزكم الأنوف من شدة رائحتها النتنة.
يسأل سائل ما هي مرجعيتك الفكرية حتى نستطيع أن نتحاور معك؟ ويتحدث آخر في مضمون حديثه: المرجعية الأخلاقية في هكذا قضية محل جدل، وأضع أمام الجميع ما ينبغي التفكير فيه كاستحقاق طبيعي: هل حياة الإنسان رخيصة حتى يتم الحوار حول حقه في الحياة والتعبير عن مكنوناته الفكرية والنفسية؟ ما الذي يجعل فئة تعطي الحق أن تحكم على انهاء حياة أحد لم يقتل حشرة فيما لو مُورس ذات الموقف عليها سوف ترفع الصوت عالياً بالرفض؟ لماذا هذه الباء تجر وتلك لا تفعل فعلها؟ أليس هكذا ازدواجية في المعايير هو ما دفع العديد من شعوب العالم أن تتخذ التوحش سبيلاً لفرض هيمنتها والنتيجة كما يبدو إلى الناظر أن من الصعوبة بمكان أن تُخطئها العين.
توحش الطوائف والتيارات السياسية: لبنان ومصر
مُنذ أن فتحت عيني على نافذة عالم الصحافة والإعلام والتوحش سيد القرارات سواء أكان ذاتي نتيجة التخلف السياسي والاجتماعي أو من خلال عناصر خارجية وأحيان يتحدان ليصبح التوحش كائن يتضخم مع الوقت ويُمارس أفعاله على المجتمعات مما يستنزف قوتها وتماسكاها ويعود بها إلى الوراء آلاف السنين على مستوى الإنساني والدولة بمؤسساتها.
لبنان هذا البلد الجميل في تنوعه الثقافي والاجتماعي عاش مرحلة تاريخية من سبعينات القرن الماضي حيث اشتعلت نيران الحرب، الأهلية مما دفع العديد من الأهالي للهجرة لخارج لبنان للبحث عن حياة آمنة بعيداً عن الصراعات الدموية ذات النكهة السياسية.
الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدته لم يسألوا: ماذا وراء الموت حيث “حياتنا عبئ على ليل المؤرخ، كلما أخفيتهم طلعوا علي من الغياب”، هكذا يُلخص الشاعر طبيعة الصراعات التي تتخذ شكل التوحش عبر التاريخ والذي لا تزال آثاره حاضره في هذه الأجيال المعاصرة وذلك عبر الانقسامات الاجتماعية الحادة ذات الطبيعة السياسية، وما هي إلا مؤشر على الخراب الذي أنتجته الحرب الأهلية التي تُشير بعض المصادر التاريخية أنها تشكلت قبل سبعينات وكانت عبر تأسيس الحلف الثلاثي (كميل شمعون، بيار الجميل، وريمون إدة) وكان ذلك في نهايات الستينات ومع بعد الانتخابات النيابية بدأت تظهر للسطح تتشكل مجموعات مسلحة تحت قيادات متعددة وكانت تخضع للتدريبات بشكل مستمر اسبوعياً كما تناول الكاتب جورج فريحة في كتابه (مُذكرات وذكريات الصادر عن دار سائر المشرق 2019) ومن بين المجموعات المسلحة حزب الكتائب ومؤسسه بطرس خوند في عام 1968، فرقة الصخرة وقائدها فؤاد الشرتوني ، فرقة البي جين وهي اختصار إلى بيار الجميل كما وثق في كتاب أنا الضحية والجلاد أنا للمؤلف جوزف سعادة عن دار الجديد 2005.
وللتأكيد أن ذلك الحلف الثلاثي التاريخي ماروني الهوية تماماً، قد يُفهم من الشهادات التاريخية التي وثقة بمختلف الطرق أن الأسباب التي أشعلت بارود الحرب الأهلية متعددة ومتداخلة ما بين المواقف الوطنية اللبنانية وما جرى في ذلك الوقت من استهداف للقوى الفلسطينية التي لم يكن لها الخيار سوى الدفاع عن استحقاقها الوطني وإن كان عبر الأراضي اللبنانية بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
لم يتخلص لبنان تماماً من التوحش الداخلي والخارجي طوال التاريخ فنظرة على مجمل الحروب ومسلسل الاغتيالات السياسية لشخصيات لبنانية قيادية من مختلف الطوائف والتيارات، وكيف له وهو لا يزال يواجه توحش الاحتلال الذي يتلقى دعم دولي وإقليمي؟! وهو الذي يوظف ويستفيد من الخلافات والصراعات اللبنانية الداخلية عبر عملائه لا سيما الدخلاء جداً على القرارات السيادية اللبنانية.
هنا محاولة إضاءة متواضعة تاريخية للتوحش في أكثر المناطق التي يحاول المجتمع الدولي الرأسمالي في تغيير معادلات إيقاف التوحش والحد من قدراته أو جعل لبنان يعود إلى حقبة الستينات بكل ما فيها وعليه وكل الرهانات فشلت حتى هذا اليوم لأن هذه الأجيال لا تُريد أن تُقاد إلى الوراء هي تُكافح لصناعة واقع مُغاير بالرغم من الإرث السياسي التاريخي وحجم التدخلات في الشأن اللبناني بصورته السلبية.
حسناً لنذهب للوراء بضع سنوات قليلة لنرى ماذا فعل التوحش العابر للقارات في مصر حينما نفذت جريمة بحق المواطنين المصريين المسيحين في ديسمبر 2016 حينما تم تفجير الكنيسة البطرسية الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذوكس وكذلك في فبراير 2017 حيث قتل مجموعة من المسيحين على يد تنظيم داعش مما دفع من العديد من الأسر وطلاب مسيحيون محافظة شمال سيناء إلى المغادرة إلى مناطق أخرى بسبب مخاوف من تنفيذ عمليات جديدة.
هذا التوحش وإن كان يتعلق فيما كتبته في الجزء الثاني عن دور النصوص الدينية على اختلاف هيئاتها في تشكل هذه الهوية المرعبة إلا أنني هنا أريد أن أذهب إلى زاوية أكثر اتساع تتعلق في حقيقة التسامح الاجتماعي في مصر إن كان يُعبر عن صورة ثقافية عامة أم لا، وذلك بشهادة العديد من العابرات للمسيحية حيث تتعدد الروايات والموقف واحد.
ماذا لو اندلعت حرب أهلية شرسة في مصر بين المسيحين والمسلمين؟ هل سوف يكون العالم العربي في مأمن من نتائجها؟ على من تقع مسؤولية مكافحة التوحش الاجتماعي؟ هذه الأسئلة وغيرها سوف يتم البحث فيها في الجزء الرابع من هذه السلسلة.
أعتقد جازماً أن الخلاص من التوحش عملية شديدة التعقيد لكنها بكل في دائرة الممكن جداً حينما نؤسس إلى روابط اجتماعية صحية بجانب السعي إلى خلق توازنات قانونية تردع كل من يُريد في أن يعبث في السلم الاجتماعي في مصر وغيرها من دول العالم العربي.
تعليق واحد